ضحايا كسب الرزق: كيف كشفت مأساة المنوفية عن استغلال الفقر وغياب تنظيم سوق العمل؟

ضحايا كسب الرزق: كيف كشفت مأساة المنوفية عن استغلال الفقر وغياب تنظيم سوق العمل؟

كتبت: إيمان صبري 

ثماني عشرة فتاة، بينهن قاصرات، لم يكُنّ سوى أيادٍ عاملة خرجن بحثًا عن لقمة عيش، فكان المصير حادثا مأساويا في طريق العودة من إحدى مزارع العنب في محافظة المنوفية، أسفر عن مصرعهن وإصابة أخريات، لكن ما حدث لم يكن مجرد حادث طريق، بل مرآة حقيقية لفشل الدولة في تنظيم سوق العمالة اليومية، وغياب الأمان الوظيفي، وترك الفقراء فريسة للسماسرة وأرباب العمل دون حسيب أو قانون.

لماذا خرجن للعمل؟

الفتيات، وأغلبهن في مقتبل العمر، بعضهن لم يبلغ 15 عامًا، أجبرتهن الظروف الاقتصادية القاسية على العمل، الأسر تعتمد على دخل الفتيات لتوفير الطعام والدواء وتعليم الإخوة، لا حديث هنا عن طفولة، ولا فرصة حقيقية لتعليم أو تنمية.

غياب الدعم الاجتماعي وعدم وجود شبكات أمان اقتصادية للأسر الفقيرة، دفع بهؤلاء الفتيات إلى شقاء العمل في مزارع العنب بأجور لا تتجاوز 130 جنيهًا في اليوم وأحيانًا أقل دون أي حماية قانونية.

العمل اليومي.. سوق مفتوح على استغلال بلا سقف

يمثل سوق العمل غير المنظم في مصر أكثر من 50% من القوى العاملة، وفق تقديرات رسمية، آلاف من النساء والرجال والأطفال يعملون بلا عقود، بلا تأمين، بلا حد أدنى للأجر، وبلا حتى مواصلات آدمية تضمن سلامتهم.

في حالة ضحايا حادث المنوفية، لم يكن هناك أي تعاقد بين العاملات وصاحب المزرعة، المسؤولية القانونية مخفاه، وغالبًا ما تضيع بين غياب التشريعات وعدم تفعيل القوانين الموجودة.

غياب الأمان الوظيفي والحد الأدنى للأجور

بينما تفرض الحكومة حدًا أدنى للأجور في القطاع الرسمي، يظل العمال غير المنتظمين، خاصة النساء في الريف، خارج الحسابات تمامًا، لا رقابة على ما يتقاضونه، ولا آليات لضمان حقوقهم، ولا حتى جهات تفتيش تتابع أوضاعهم.

ومن ناحية أخرى، فإن غياب وسائل مواصلات مخصصة لنقل العمال، وعدم إلزام أصحاب المزارع بتوفيرها، يجعل العاملات عرضة للخطر اليومي، كما حدث في هذا الحادث.

عمالة الأطفال.. جريمة معلنة يتغاضى عنها الجميع

من بين الضحايا فتيات لا تتجاوز أعمارهن 14 عامًا، ما يفتح الباب مجددًا حول تفشي عمالة الأطفال في مصر رغم القوانين التي تجرمها.

بحسب آخر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، هناك أكثر من 1.6 مليون طفل يعملون في مصر، أغلبهم في ظروف غير آمنة، وقطاعات غير رسمية، لكن الواقع يشير إلى أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، في ظل غياب الرقابة وضعف تطبيق القانون.

غياب الدولة.. وأجور أقل من خط الكرامة

رغم أن الحكومة المصرية أعلنت رسميًا أن الحد الأدنى للأجور في القطاعين العام والخاص لا يقل عن 6000 جنيه شهريًا، أي ما يعادل نحو 200 جنيه في اليوم الواحد، إلا أن الفتيات العاملات في مزارع العنب لم يتقاضين سوى 130 جنيهًا يوميًا، في ظروف عمل شاقة تبدأ من الفجر وتنتهي مع غروب الشمس.

هذا الفارق لا يمكن وصفه إلا بأنه دليل صارخ على غياب الدولة عن تنظيم سوق العمل غير الرسمي، وترك العمالة اليومية عرضة للاستغلال، بلا حد أدنى حقيقي، ولا رقابة، ولا مساءلة، أين وزارة القوى العاملة من هذا المشهد؟

أين هي أجهزة التفتيش التي من المفترض أن تراقب تطبيق الحد الأدنى للأجور، وشروط السلامة، وتأمينات النقل؟

ولماذا يُستثنى ملايين العمال والعاملات من حماية القانون لمجرد أنهم لا يعملون ضمن منظومة رسمية؟

ما حدث في المنوفية لا يكشف فقط عن مأساة إنسانية، بل يفضح ازدواجية الدولة في تطبيق العدالة الاجتماعية، ويطرح سؤالًا: «ما قيمة رفع الحد الأدنى للأجور إذا كانت ملايين المصريين لا يصلهم منه جنيه واحد؟»

غياب الرقابة على التزام أصحاب العمل بالأجور العادلة، واستثناء العمالة اليومية من منظومة الحد الأدنى، يفتح الباب أمام استغلال فجّ للفقر والحاجة، ويجعل من قوانين العمل مجرد حبر على ورق.

علي جانب آخر قال الإعلامي محمد علي خير: «خبر مصرع 19 طفلة وهن يبحثن عن لقمة عيش وجع قلب، يعني إيه مزرعة تستغل فقر طفلة وتشغلها بـ 120 جنيه في اليوم؟ إذا لم تكن هذه عبودية بأحط صورها فماذا تكون؟ وهل تعلم الحكومة أن الحد الأدنى للأجور لا يتم تطبيقه على الأرض وأنه فنكوش كبير؟ وأين نواب محافظة المنوفية؟»، وأشار إلى نقطة مهمة، حيث تساءل لو جرت هذه الحادثة في طريق الساحل الشمالي.. كيف ستكون رد فعل كل أجهزه الدوولة؟

وقال إن أداء الدولة يجب أن يرقى لإيجاد حلول واقعية لحل مشكلة الفقر في مصر.

الإعلامي محمد علي خير

 

أين الدولة من كل هذا؟

وزارة القوى العاملة اكتفت بالبيانات البروتوكولية، ولا يوجد لها دور فاعل في تنظيم العمالة غير المنتظمة، ولا متابعة سماسرة العمل أو وسائل النقل.

أما وزارة التضامن، فقد أعلنت صرف تعويضات لأسر الضحايا، لكن الحقيقة أن التعويض لا يعوّض غياب التنظيم، ولا يمنع الحوادث القادمة.

حادثة المنوفية ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما تُترك الأسر الفقيرة تواجه السوق بلا حماية، وتُترك فتيات الريف فريسة لعمالة لا رحمة فيها، ما حدث هو جريمة نظام، لا حادث سير.

فإذا لم تتحرك الدولة لتنظيم سوق العمل، وحماية العمالة اليومية، وتجريم عمالة الأطفال بصرامة، فالموت سيظل أرخص من الحد الأدنى للأجور.