عز الدين الهواري يكتب لـ«الحرية»: متى يبدأ التحرك المسلح من الداخل لتحرير فلسطين؟

في لحظات مفصلية من التاريخ، يولد التغيير من قلب الألم، وتنبثق الثورة لا من الحدود، بل من أحشاء الوطن الجريح. ولعل فلسطين اليوم تقف على أعتاب ذلك التحول الجذري، حيث يوشك البركان أن ينفجر من الداخل، لا من خارج السور. فكما حدث في جنوب أفريقيا، حيث انقلب السحر على الساحر، وسقط نظام الفصل العنصري بفعل ثورة أبناء البلد أنفسهم، فإن السيناريو الأقرب لتحرير فلسطين لا يبدأ من طهران أو دمشق، بل من حيفا ويافا واللد والرملة والقدس.
إن فلسطين، تلك الممتدة من النهر إلى البحر، لن تُحرر إلا من الداخل. ليس عبر قذائف تُطلق من خلف الحدود، بل من رصاصة واحدة تُطلق من جسد الداخل الفلسطيني المثقل بالغضب، المحاصر بالحواجز، والمشدود بين الحنين والخذلان. رصاصة ليست بالضرورة من بندقية، بل ربما تكون موقفاً، أو رفضاً جماعياً، أو انتفاضة مدنية، أو عصياناً شاملاً.
الواقع الجغرافي للسكان الفلسطينيين داخل ما يسمى “إسرائيل” يرسم مشهداً فريداً لا يتكرر في أي ساحة صراع. شعب موزع بذكاء وواقعية في قلب المدن المختلطة، من الجليل إلى النقب، حيث لا يمكن للآلة الحربية الإسرائيلية أن تقصف أو تدمر دون أن تقتل نفسها في ذات اللحظة. لا مجال هنا للطيران ولا للنووي. هنا المعركة الأخطر: معركة الوعي والوجود.
لكن الأمل لا يُبنى على الفلسطينيين وحدهم. بل إن الحل الجذري لن يأتي إلا بتفكيك البنية العقائدية والعنصرية لدولة الاحتلال، والرهان هنا لا يكون على الجيوش، بل على الضمير. آن الأوان للحديث، بل للمناداة، بدولة واحدة، عربية فلسطينية، يعيش فيها من اليهود من لم تتلطخ أيديهم بدماء الفلسطينيين، ولم ينخرطوا في منظومة الإبادة والتمييز والفصل العنصري.
نحتاج إلى أن نمد أيدينا – لا خضوعاً، بل وعياً بالتاريخ – لأولئك اليهود القابلين للعيش المشترك، ممن يرون أن أمنهم لا يكون في ظل دبابة، بل في ظل عدالة. أن نفتح نافذة للذين يرفضون الصهيونية، ويكرهون القتل باسم الدين، ويبحثون عن حياة لا تمزقها الدموع.
فالثورة القادمة – إن كُتب لها أن تنجح – يجب أن تكون ثورة على الصهيونية، لا على اليهود. على نظام الأبارتهايد، لا على الفرد. على الدولة العبرية ككيان فصل وإبادة، لا على الدين كعقيدة سماوية.
هنا فقط، يمكن أن تبدأ فلسطين الجديدة. من الداخل، حيث لا يقدر العدو على التدمير. من المدن، التي تختلط فيها الأحلام والكوابيس. من الشوارع، التي تحفظ أسماء الشهداء وتنتظر الغد. من العقول، التي تؤمن أن الحلم ليس في القتال وحده، بل في بناء دولة تُنهي كل أشكال التمييز والدمار.
إنها العاصفة القادمة، من الداخل المحتل، حين تطلق أول رصاصة من الضمير. وحين يرفع الشعب الفلسطيني علمه لا ليعلن الحرب، بل ليعلن نهاية دولة الأكاذيب: دولة الصهيونية العالمية.
وما يجب أن يُقال بوضوح أكثر: إن قيام هذه الثورة على الدولة الصهيونية، لا يقتصر أثره على فلسطين وحدها، بل هو إنقاذ للعالم كله. لأن هذه الدولة، التي تحولت إلى رأس حربة لتآمر دولي، تتحكم في اقتصاد العالم، وتنسج خيوط السيطرة عبر البنوك والشركات العابرة للقارات، وتغذي الحروب من خلال تجارة السلاح، وتُشعل الصراعات لتبقى فوق الجميع. إسقاط دولة الصهيونية هو قطع رأس الأفعى التي تنفث سمومها في كل رقعة من الأرض، من غزة إلى السودان، ومن اليمن إلى أوكرانيا. إنها ثورة تُطهِّر ليس فقط فلسطين، بل تطهّر الضمير الإنساني كله.