وائل شفيق يكتب لـ«الحرية»: مرمر زماني ليس كما يبدو.. السخرية كأداة للاحتجاج

السخرية لدى المصريين كالوشاح الحريري الذي يلفّ به المرء روحه ليقيها من لسعات الواقع القاسية وتحولات الزمن العاصفة، وقد تجلّت هذه الروح في أغنية “مرمر زماني زماني ما مرمرش”، التي كتبها الشاعر العبقري جمال بخيت بكلمات عميقة وذكية.
تجلّت عبقريته في اختياره للأسلوب الساخر والكلمات الشعبية التي تستخدمها الطبقات الفقيرة، مما جعل منطوق الشخصية في الأغنية معبّرًا عن آمال وتطلعات هذه الطبقات. ولحنها الملحن المبدع فاروق الشرنوبي بصدقٍ يعكس روح الأغنية ومضمونها الساخر العميق، وغنّاها المطرب الكبير علي الحجار بإحساسٍ يعكس مبادئه واهتماماته بالعدالة الاجتماعية، لتكون أغنية ساخرة ترفع لواء الاحتجاج والتمرد على الواقع المرير، وتعبّر عن صرخة احتجاجية في وجه الظروف الصعبة.
“مرمر زماني” أغنية تراثية غنّاها العديد من الفنانين بألحان وكلمات مختلفة، لتظل محطة مهمة في مسيرة الفن العربي. استطاعت هذه الأغنية، بفضل جمالها ورونقها، أن تلامس قلوب الناس وتدخل إلى أعماقهم، محدثة تأثيرًا كبيرًا في وجدانهم.
في النسخة التي قدّمها المطرب الكبير علي الحجار، نجد أنفسنا أمام عمل فني متكامل يمتزج فيه الفن بالهدف والالتزام. الشاعر الكبير جمال بخيت، بشعره المتمرد، يقدّم رؤية ثاقبة لمجتمعه، منتقدًا الأوضاع السائدة في تلك الفترة، التي شهدت تحولات جذرية نحو الرأسمالية وتراجعًا عن المكتسبات الاشتراكية.
بداية الأغنية تكشف عن تمرد بخيت بوضوح، حيث غيّر كلمات الأغنية الشهيرة من “مرمر زماني زماني مرمر” إلى “مرمر زماني زماني مامرمرش”. هذا التغيير البسيط في الكلمات يعكس تمرده ورغبته في التغيير. وهذا التمرد على كلمات الأغنية التراثية ليس مقتصرًا على التراث فقط، بل هو تمرد على الواقع المعاش أيضًا، حيث يعكس رفضه للظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
من خلال كلمات الأغنية، نرى كيف استطاع بخيت أن يقدّم معاني عميقة في قالب ساخر وبسيط. استخدم الأساليب البلاغية والفنية ببراعة، مثل السخرية في وصف الطبقات الاجتماعية المختلفة، والرمزية في وصف الظلم الاجتماعي والاقتصادي.
العبارات مثل “أبوس إيدين دبّاح العجل وأبوس إيدين مَن يكسي الرِجل وأبوس إيدين بياعة الفجل بتبيع ثمار ولا تستثمرش” تحمل في طيّاتها السخرية من الواقع الاجتماعي، حيث يرسم بخيت لوحة ساخرة للنظام الاقتصادي الذي يركّز على الربح الفردي دون الاهتمام بالاستثمار والتنمية.
ينتقد بخيت الأوضاع السائدة في تلك الفترة بجرأة وصراحة، كما في “مكتوب لغيري يقـُشّ الزاد وليه يا طيري أعيش مِنكاد”، حيث يعبّر عن مرارة عدم المساواة في توزيع الثروة، ويشير إلى الفوارق الطبقية والاحترام الزائد للطبقات العليا في “زعلان يا باشا زعلان ليه عشان غلطنا وقلنا يا بيه”.
كما ينتقد استغلال الأقوياء للضعفاء في “قاللي المثل قرّشك صياد وابن الغلابة ما بيزمّرش”.
يؤكد بخيت على أهمية التعاون والبناء المشترك في المجتمع في “لكل حارة إيدين تنباس ما دام بتبني ولا تدمرش”، ويدعو إلى المساواة وعدم الاستعلاء على الآخرين في “حاسب يا سيدي ما تتأمرش”.
كما يعبّر عن التضامن مع الناس البسطاء وتأكيد أهمية العمل من أجلهم في “بنغنّي لجل الناس الناس في إمبابة ولا ف أبو العباس”.
في “اسمعها كلمة من المنقوش على كل ساقية وكل شاكوش إن كنت ناوي على حلّق حوش أموت وعرقي ما يُستعمرش”، يعبّر بخيت عن اعتزاز المواطنين البسطاء، الفلاحين والعمال، بكرامتهم التي لا تقبل بالاستغلال أو الاستعمار، حيث يؤكد أهمية الحفاظ على الاستقلالية والكرامة، وعدم السماح لأي جهة أن تستولي على جهودهم أو تستغلهم، مما يعكس صمودهم ورفضهم للظلم.
في النهاية، تظل أغنية “مرمر زماني زماني مامرمرش” شاهدة على قدرة الفن على التأثير في المجتمع، ودعوة الناس إلى التفكير في قضاياهم والعمل على حلّها. إنها دعوة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وللفن الذي يُلهم ويحرّك الناس نحو الأفضل.
أغنية رائعة، ستظل تعبّر عن هموم وآمال الشعب، وتطالب بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتدعو للتفكير والعمل من أجل تحقيقها، لتظل في أذهاننا كصوتٍ للعدالة والحرية.