طارق العوضي يكتب لـ«الحرية»: صراعات “السيكو سيكو”

طارق العوضي يكتب لـ«الحرية»: صراعات “السيكو سيكو”

في المشهد الشرق أوسطي المعقد، تفرض الولايات المتحدة وإيران نمطًا من الصراع يبدو ظاهريًا عنيفًا، لكنه في جوهره مضبوط بدقة لا تخطئها العين. هي ليست حربًا شاملة، ولا سلامًا مستقرًا، بل أشبه برقصة عبثية على حافة الهاوية، حيث تتبادل الأطراف الضربات، وتتناقل وسائل الإعلام أخبار التصعيد، بينما تُدار اللعبة بأعصاب باردة خلف الكواليس.

هذه الحالة الغريبة التي تشبه “التمثيل العنيف دون دماء مؤثرة”، تستحق أن يُطلق عليها وصف “حروب السيكو سيكو”، حيث تُطلق النيران لا لإصابة الخصم في مقتل، بل لإثبات الحضور وإيصال الرسائل، وتبقى قواعد الاشتباك حاضرة، تُحترم رغم كل مظاهر الفوضى.

تأتي الضربات الأمريكية والإيرانية، في ظاهرها، كردود فعل على استفزاز أو تجاوز، لكنها كثيرًا ما تُنفّذ بعد تنسيق غير مباشر، أو في توقيت محسوب بدقة. تُضرب مواقع تابعة لمليشيات موالية لطهران، ولكن بعد إفراغها من القيادات، وتُطلق صواريخ إيرانية على قواعد أمريكية، ولكن دون سقوط ضحايا، أو تُسرب معلومات بأن الرد قادم في موعد يسمح بالإخلاء. كل هذا يُشير إلى أن هناك خطًا أحمر لا يتم تجاوزه، وخط اتصال غير معلن يُبقي الأمور تحت السيطرة.

ما يدعو للتأمل أن هذه الضربات المتبادلة لا تؤثر فعليًا على توازن القوى، ولا تغير من الوقائع الميدانية، بل تُستخدم كأدوات ضغط تفاوضي في ملفات أخرى، وعلى رأسها الملف النووي. أمريكا تُظهر قوتها أمام الداخل والخارج، دون أن تنخرط في حرب شاملة مكلفة، وإيران ترفع شعار المقاومة، وتُشبع الشارع بشعارات الرد والثأر، بينما تحتفظ بكل أوراقها للمساومة على الطاولة. في هذا السياق، تتحول الحرب من أداة تدمير إلى لغة تفاهم، لكن بلغة النار.

المفارقة أن هذا النمط من الاشتباك يخدع الجميع. تخدع أمريكا الرأي العام العالمي بأنها تحاصر المشروع الإيراني، بينما لا تزال تحتفظ بخطوط اتصال خلفية مع طهران. وتخدع إيران جمهورها بأنها تنتقم وتُلقّن العدو درسًا، بينما هي حريصة كل الحرص على ألا يتجاوز ردها الحد المسموح به أمريكيًا. أما الشعوب، فهي التي تدفع الثمن الحقيقي لهذا المشهد المسرحي، حيث تشتعل الأراضي العربية بالصراع، وتُستنزف الموارد، وتُبنى السياسات على وهم الصدام الوجودي بين واشنطن وطهران.

في خلفية هذا المشهد، تلعب قوى إقليمية أدوارًا مركّبة. إسرائيل، مثلًا، تُحرّض وتدفع نحو التصعيد، لكنها لا تسعى لحرب مفتوحة، بل لضربات نوعية تُضعف الخصم دون أن تورّط الحلفاء.

ايضا روسيا والصين تراقبان التوازن، وكلتاهما تستفيد من بقاء واشنطن وطهران في حالة لا سلم ولا حرب. أما الدول العربية، فتبقى ساحةً للصراع لا طرفًا في صناعته.

“حروب السيكو سيكو” لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، لأنها تقوم على وهم أن كل طرف يُمسك بخيوط اللعبة دون أخطاء.