الصحفي الفلسطيني أحمد البطة يتحدث مع «الحرية» عن تجربته الإنسانية: فقدت والدتي، أختي الكبرى، وأربعة من أبناء أختي بسبب الحرب.

الصحفي الفلسطيني أحمد البطة يتحدث مع «الحرية» عن تجربته الإنسانية: فقدت والدتي، أختي الكبرى، وأربعة من أبناء أختي بسبب الحرب.

فقدت ما بين 100 إلى 200 شخص من العائلة والأصدقاء والزملاء في حرب الإبادة

بسبب تنقلي لأداء عملي ودعت أهلي وداعا سريعًا لم أسامح نفسي عليه حتى اليوم

الجوع وانعدام الماء وغياب الكهرباء أمور مؤلمة ولكنها لا تقارن بوجع الفقد

لا يوجد طعام يكفي لوجبة واحدة في اليوم حتى رغيف الخبز.. وهناك من لا يأكل لأيام

الأطفال تحولت أحلامهم من التعليم واللعب إلى حلم الحصول على رشفة ماء

ولادة ابنتي تمت بعيدا عني.. ولم أستطع رؤيتها حتى هذه اللحظة

العالم يري الإبادة الجماعية في صمت.. وأصبحنا نشعر أنه لا جدوي من نقل الصورة للعالم الخارجي

أجرت الحوار- إيمان صبري

وسط الركام، وتحت تهديد دائم بالقصف، لا يزال صوت الصحافة حاضرًا في غزة يوثق الحقيقة، في بقعةٍ من الأرض تُحاصرها الحرب وتكاد تُمنع عنها ملامح الحياة، يعمل الصحفيون في ظروف استثنائية مخاطرين بأرواحهم لإيصال صورة ما يجري للعالم.

في هذا الحوار، نسلّط الضوء على الواقع الإنساني داخل قطاع غزة، ويحدثنا الكاتب الصحفي الفلسطيني أحمد البطة خلال حواره لـ«الحرية» عن تفاصيل الوجع والحرب عن قرب، لنفهم كيف تبدو الحياة اليومية تحت الحصار، وما الذي يعنيه أن تكون صحفيًا في منطقة تفتقر لأبسط مقوّمات الأمان، حديث يكشف عن كواليس الألم، وأصوات لا تُسمع كثيرًا خلف عناوين الأخبار.

والى نص الحوار:

في البداية.. كيف كانت حياتك قبل حرب الإبادة الإسرائيلية؟

كنت أعمل مراسلاً لعدد من القنوات المحلية والوكالات الدولية، وأنتج تقارير وقصصًا مصورة، حصلت على جائزتين، من بينهما جائزة شيرين أبو عاقلة للتقارير المصورة.

عند اندلاع الحرب واصلت عملي كمراسل للقنوات المحلية، ثم التحقت «بالتلفزيون العربي» في اليوم الحادي عشر من الحرب، ومنذ اليوم الأول كان النزوح هو أول ما واجهته، ثم أُصبت ودخلت المستشفى وكنت مع عائلتي في خان يونس ثم انتقلت إلى دير البلح مع الفريق وتركت أهلي من خلفي.

هل  فقدت أشخاص من عائلتك بسبب حرب الإبادة بغزة؟

فقدت ما بين 100 إلى 200 شخص من العائلة والأصدقاء والزملاء، كثير منهم من أقاربي من الدرجة الأولى والثانية والثالثة.

يوم 12 مايو، تفرقت العائلة مع بدء العملية البرية كنت قد قررت أنا والمصور ألّا نغادر قبل تغطية اللحظات الحاسمة، وعند الفجر غادرت مجمع ناصر الطبي مودعًا أهلي وداعًا سريعًا لم أسامح نفسي عليه حتى اليوم، منذ ذلك الحين لم أتمكن من التواصل معهم بسبب انقطاع الاتصال، لم أكن أعرف هل هم بأمان؟ هل لديهم طعامٍ كافي؟

ولم أرَ والدتي أو زوجتي حتى يوم 25 ديسمبر وفي ذلك اليوم زارتني والدتي بشكل مفاجئ، ولم أكن أعرف أنه كان وداعًا أخيرًا، بعد يومان فقط من الزياره استُهدف مكانهم واستُشهدت والدتي، وأختي الكبرى، وأربعة من أبناء أختي، وقبل يومين من هذا القصف، لحسن الحظ كنت قد ودّعت زوجتي التي نجت بالصدفة الى أهلها في مكان نزوحهم.

كيف مرّ عليك العيد الرابع تحت القصف؟

دائمًا ما أقول «يبدأ وجع الحرب حين تفقد أعز ما تملك» كل ما عدا ذلك كالجوع، انعدام الماء، أو غياب الكهرباء مؤلم لكنه لا يُقارن بوجع الفقد، أربع أعياد مرّت دون أن نشعر بها أول عيد فطر بعد استشهاد أمي وأختي كان الأصعب بعد شهرين من استشهاد والدتي، كانت زوجتي حامل فسافرت لتلِد في قطر لأن غزة لم تعد مكانًا للولادة أو الحياة بمعني أصح لم أرها منذ ذلك الحين ولا حتى ابنتي، نحن نعيش الأعياد ونحن جياع، لا نملك حتى الخبز.

كيف تغيرت حياتك منذ بداية الحرب؟

الحياة كلها انقلبت رأسًا على عقب، كنت صحفيًا شابًا أعمل منذ دخولي الجامعة، تزوجت، وكانت حياتي مليئة بالطموح والأمل، فجأة فقدت كل شيء عائلتي، منزلي، واستقراري، أما اليوم فلا حياة تُذكر كل يوم أسوأ من سابقه.

كيف تحصل على أبسط مقومات الحياة؟

نحن كشعب نؤمن بوجوب الكفاح رغم صعوبه الحياة ويوفر مقاومات حياته بنفسه، ولم يتخيل أحد في أسوء كوابيس العصر أن تصل الأمور لهذه الدرجة، الماء نوفره بأصعب الطرق، ولا يوجد طعام يكفي لوجبة واحدة في اليوم، حتى رغيف الخبز فقط، وهناك من لا يأكل لعدة أيام، فوضع الخيم والملاجئ أسوء ما يكون، الخيام غير صالحة للعيش، والأمراض تنتشر، وخصوصًا بين الأطفال.

كيف تؤثر الحرب على الأطفال بغزة؟

أعيش مع أخواتي، وأشاهد أبناءهم يكبرون دون تعليم للسنة الثالثة على التوالي، لا غذاء، لا صحة، لا لعب، لا ثياب للعيد، فأصبح عند كل طفل سوء تغذيه.

وضع الأطفال مُدمر نفسيا، باختصار كل طفل فقد طفولته، أصبح أكبر أحلامهم الآن هو رَشفة ماء، بعدما كانوا من الأوائل في المدارس، وكانت لديهم أحلام وطموحا، الآن أصبح الطموح هو النجاة فقط.

ما أصعب موقف إنساني مر عليك منذ بداية حرب الإبادة على غزة؟

مع الأسف لا يمكن عد المواقف المؤلمة الذين حدثت خلال أكثر من 600 يوم، فكل يوم منهم كان هناك موقف مؤلم، لكن اللحظة الأصعب كانت استشهاد والدتي، لم أتمكن من عيش وجع الفقد كما يستحق، وكذلك ولادة ابنتي بعيدًا عني، وتسميتها على اسم جدتها التي لم تراها، فكل لحظة تمر هي وجع متجدد والحياة صعبة ومؤلمة

كمراسل صحفي.. ما أصعب لحظة وثقتها؟

أصعب لحظة كانت توثيق مشاهد النزوح، النزوح ليس فقط ترك البيت؛ بل هو فقدان الاتجاه، والهدف، وحتى الكرامة، لم نعرف أين نذهب، وأين ننصب الخيمة، حتى إذا توافرت هذه الأشياء لم تكن للعائلة وسيلة نقل لنقل هذه الأشياء، حتى إذا توافرت كل هذه الأشياء ماذا ستاخذ الخيمة من كل هذا؟ كنت أرى الناس بعيون دامعة، لا يعلمون إلى أين يذهبون، أو ماذا يأخذون معهم كل شيء بدأ فوق طاقة البشر، ولا مره تخيلو أن يتم تصوير الفلسطيني وهو في هذه الحالة، في كل مره ننزح فيها كانت تصعب علينا أنفسنا.

كيف تتعامل مع فقدان الأهل والزملاء؟

أنا إنسان أولاً قبل أن أكون صحفيًا، أريد عيش وجع استشهاد أهلي وأصدقائي، نحن لا نريد فقط تغطية الحدث نريد أن نبكي على زملائنا الذي تم استشهادهم.

نحن نعيش مع بعض نرى زملائنا أكثر من رؤيه أمهاتنا وعند استشهاد زميل لي أريد عيش لحظه الوجع، حيث أصبح بيننا حب العائلة ليس فقط حب الزمالة، أريد أن أعيش العيد كإنسان ليس كصحفي أقف أمام الكاميرا وأسرد كيف يعيش الفلسطيني عيدهم في ظل الإباده.

أنا مواطن فلسطيني قبل أن أكون صحفي، ومع الأسف هذه من أكبر سلبيات الصحافة تسرقنا من شعورنا وعيش حياه الإنسان الطبيعي بالشعور بالمشاعر، فللأسف لا فرصة لعيش الحزن أو التعبير عنه يجب العودة فورًا إلى العمل، فقدنا زملاء وأصدقاء نعيش معهم أكثر مما نعيش مع عائلاتنا، وفي كل شهيد نودّعه أرى أمي، أراها في كل لحظة وجع.

ما الرسالة التي تحاول إيصالها للعالم؟

ليس هناك عالم، ليس هناك من يسمعنا، ليس هناك من يتحدث عنا، العالم يري الإبادة الجماعية ويشاهد في صمت، بكل صراحه نشعر أنه لا جدوي لنقل الصورة للعالم الخارجي وهو يشاهد ما يحدث ولا يتكلم بأي كلمه نُباد ونموت في صمت، لكن هذه مسؤوليه النقل وتوصيل الرسالة.

والعالم يرى، ويصمت، ويتواطأ، ونحن لا نطلب شيئًا سوى أن يشعروا بنا، لكن لا أحد يفعل، بإختصار من كان يريد فعل شئ كان فعله من سنه ونصف، ولكن رغم ذلك، نواصل نقل الحقيقة ونتمسك بمسؤوليتنا الأخلاقية برغم كل المجازر التي تصير واستشهاد أكثر من 230 صحفيًا، ومع ذلك سنواصل، وسنبقى ننقل الصورة رغم الألم، لأن صوتنا هو الشيء الوحيد المتبقي لنا.

وفي زمنٍ تُقاس فيه الكرامة برغيف خبز، وتُختصر الأحلام بجرعة ماء، يقف هذا الصحفي لا بصفته ناقلًا للخبر فحسب بل كشاهد على الإبادة، لم تمنحه الحرب وقتًا ليحزن، ولا متسعًا لوداع يليق بأمه، ولا حتى لحظة ليحمل ابنته بين ذراعيه، ومع ذلك يُصرّ أن يكون صوت من صمت العالم عنهم في وجه القصف، في قلب الركام، هناك من لا يزال يُقاوم بالكاميرا، لعل عدسة واحدة تُنقذ ما عجزت عنه الدول.

هو لم يختر الحرب، لكنها اختارته ليُخلّد حكايه شعب بأكمله.