سحر الحسيني تكتب: راشيل حية.. القصيدة التي تحدت مفهوم التأبين

قصيدة للشاعر السوري قاسم محمد العاني.. لفتاةٍ في الجنوبِ تنتظر نضوجها
(قصيدة : راشيل)
ها نحن جئنا إلى شرقِ الأيامى
أننطر الصبحَ أم نخطو يتامى ؟
كالمجدِ جئنا لأوطانٍ
بنا زهدت
و نحن نحملها
في القلبِ
شامًا
نبيع عمرًا
و نعطي فرصةً لغدٍ
لعله يقرض
الحلمَ اهتمامًا
نشك بالتبغِ
حتى نشربَ العنبَ المغشوشَ
بالماءِ
و السكران صاما
نعرف الحربَ
و الشهداء ننكرهم
كأنهم سكنوا بيتًا حراما
طريقة الحرِ
صيدٌ لا متاعَ بهِ
فيهِ تعطشَ شِعرًا أو غماما
حمامةٌ جدلت للفجرِ خصلتها
طارت
ولم تجدِ الدنيا
لِزاما
لم ترمِ للودِ طرفٌ
يستطب بهِ
ولا تندت بحرفِ العينِ عاما
جبارة الدهرِ
كادَ الله يرفعها
للشمسِ
لكنه
أرخى الظلاما
أجازَ للكونِ
لقياها
كآلهةٍ عرت
و لم تجزِ اللمسَ الحراما
لها سؤال الغريبِ
الواهبِ
المتعالي
لي
لفظة الغيبِ
لو زاحَ اللثاما
كأنها خلقت للتوِ
وسطَ دمٍ
و تخطف الموتَ
للموتى ..
احتراما
مررت بالضوءِ منفيًا بلا نسقٍ
أكفكف البردَ
عن وجهِ الأيامى
وكانَ في البردِ أفلاكًا مشوشةً
ومشهدًا عبثيَ العرضِ
عامَا
لشاهدٍ و شهيدٍ
نال عزَهما
ثورٌ أليفٌ و قطٌ ما كفى ما
لم تزرعِ الأرض إلا من حناجرهم
للحقِ صلوا وقاموا حينَ قامَا
ما صدقوا الليلَ في أعماقِ ثورتهم
كأنهم ولدوا غيمًا زؤاما
ضربًا على الرملِ
كان الوقت
بوصلةً
والدهر يسرق ذكرانا الحطاما
والبنت متعبةٌ
من غدرِ
إخوتها
فقررت قتلَ راشيل انتقاما
فهل بذبحكِ يعنى المجد
سيدتي
أم كان حقًا
على الدنيا السلام
هذه القصيدة ليست نصًا متخيَّلًا، بل تُستمدّ من واقعٍ حيّ، من قصة حقيقية لفتاة تُدعى راشيل أبو الحسن من حمص، فتاة لم تمت، لكنها مرّت بمنطقة موتٍ رمزية كثيفة؛ فالنص هنا لا يرثي، بل يكتب النجاة بوصفها خيانة للموت، وانبعاثًا خافتًا من قلب العطب.
هي قصيدة مكتوبة على مفترق
بين ما ظننّاه فقدًا،
وما تكشّف لاحقًا أنه نجاةٌ بصيغة الوجع.
هذه القصيدة ليست استدعاءً بعيدًا لرمز مستورد.
إنها قصيدة كتبت على حافة الجرح، عن فتاة حقيقية من حمص تُدعى راشيل أبو الحسن، مرّت بالموت واقفة، وخرجت منه لا كمن انتصر، بل كمن لم يُقتَل… رغم أن كل شيء في العالم أُعِدّ لدفنها.
اقرأ أيضًا: سحر الحسيني تكتب: أنس الدغيم كاهن الوجدان الثوري.. حين يعلّق روحه على لافتاتٍ تمشي في دروب الحياة
حين قرأتُ القصيدة للمرّة الأولى، لم أرَ فيها نصًّا يرثي، بل نصًّا يُدين.
لم تكن راشيل عندي مجرد “بطلة”، بل كانت مرآة لكل فتاةٍ انتُزعت منها براءتها في زمن صاخب، ولم يمنحها أحد حقّ البكاء.
القصيدة تقفز فوق اللغة، وتدخل إلى المعنى من باب الأسى النبيل:
ماذا لو كان القاتلُ يعرفك؟
ماذا لو كانت يدُكِ التي صفّقت يومًا… هي ذاتها من تُسقطك عن المسرح؟
ماذا لو كانت أخواتكِ هنّ من قررن ذبحك… لا منقذك؟
راشيل — في القصيدة — تمشي على حدود الضوء والدم،
تمرّ على العالم بوصفها “آلهة عارية”، تُرى ولا تُلمس،
تسأل ولا يُجاب عنها،
تولد وسط الدم لا لتعيش، بل لتُجبر الموتى على احترام ما لا يُقال.
وهنا، تكمن عظمة هذه القصيدة:
أنها لم تُكتَب لتزيّن المجاز،
بل لتقول الحقيقة حين خافت المدينة من قولها.
“لفتاةٍ في الجنوبِ تنتظر نضوجها”
العنوان طافح بالرمز والمفارقة.
فهو يشير إلى أنثى في الجنوب، حيث تتكثف الرموز المرتبطة بالقهر والتهميش والبطولة المنسية.
لم تنضج بعد، رغم ما مرّت به من مآسٍ.
وهذا “الانتظار” للنضوج رغم اقترابها من المجد، يخلق مفارقة تراجيدية:
البطلة لم تمت… لكنها لم تولد كاملة بعد.
ثم يأتي الاسم القاطع، العاري من التوصيف:
“(قصيدة: راشيل)”
“راشيل” هنا اسم مفرد، مُطلَق، لا يحتاج توضيحًا.
هو نبوءة، وجرح، وعلامة فارقة.
النص مبني كمنحنى تصاعدي يبدأ بالانطلاق الجماعي المُرهَق
“ها نحن جئنا إلى شرقِ الأيامى”
المتكلمون لا يمثّلون ذاتًا فردية بل حالة جماعية مهمّشة.
الإحباط السياسي والوجداني يتضح فى ..
“كالمجد جئنا… بنا زهدت”
الأوطان ترفض أبناءها، والمستقبل لا يعيرهم اهتمامًا إلا إذا قرضوا الحلم بفوائد الألم.
العطش الروحي والزيف الاجتماعي بالقصيدة نجده هنا
“نشُكّ بالتبغ… نشرب العنب المغشوش”
في هذا البيت تنهار القيم الحسية: الحقيقية تُشك، والزيف يُشرب بوعي.
“نعرف الحربَ… وننكر الشهداء”
وهذا بيت مزلزل: حين لا نعترف بمن ماتوا لأجلنا، أيّ حياة تبقي
راشيل، كما تُبنى في النص، ليست فقط فتاة من الجنوب.
بل حمامة الفجر التي نسجت خصلتها من الضوء.
الآلهة العارية التي يراها العالم لكنها لا تُمَسّ.
الجبارة التي كاد الله أن يرفعها، لكنه أرخى الظلام بدلًا من النور.
هذه التكوينات تجعل من راشيل:
شبه نبية، نصف شهيدة، ونصف ناجية.
أنثى خلقها الدم، ولكنها تخطف الموت احترامًا للموتى، لا خوفًا منهم
الانهيار الرمزي والطعنة الداخلية
ذروة النص تأتي في قوله:
“والبنت متعبةٌ من غدر إخوتها
فقررت قتل راشيل انتقامًا”
هنا يتحول مجرى القصيدة من التأمل الرمزي إلى مشهد تراجيدي داخلي:
القتل لا يأتي من عدو.
بل من أنثى لأخرى، من بنتٍ تشبه راشيل، لكنها مهزومة، فتغدر بها.
هذا الانقلاب يشير إلى الخذلان الداخلي.
النسوية المقهورة التي تنقلب على ذاتها.
الصراع الطبقي أو الاجتماعي داخل الثورة نفسها.
الختام وسؤال المجد
“فهل بذبحكِ يُعنى المجد، سيدتي؟
أم كان حقًا على الدنيا السلاما؟”
سؤالان يختصران حجم المأساة:
هل يُبنى المجد على القتل؟
أم أن في مقتل راشيل كانت النهاية؟
كأن الشاعر هنا يتركنا أمام مرآة:
إما أن نُكمل الطريق بعد موتٍ رمزيّ كهذا،
أو نعترف بأن المعنى مات مع راشيل، وإن كانت هي ما تزال حيّة.
اللغة تعتمد على المجاز الثقيل، المتشابك، ذي التراكيب المقلوبة.
تحتوي على إشارات قرآنية (“كاد الله يرفعها”) وأسطورية (“آلهة عرَت”)، مما يرفع الراشيل من مجرّد أنثى إلى كيان أسطوري.
الزمن فى القصيدة غير خطيّ.
يتداخل فيه الماضي القريب (الثورة)، بالحاضر المشوش (الخذلان)، بالمستقبل المؤجّل (الانتظار)
مع أدبيات الحرب الأهلية، والمراثي السياسية.
تقترب من قصائد درويش في الإيقاع الرمزي، وتنفرد برؤية سوداء أكثر جذرية.
البناء الصوتي يكمن فى ان
القصيدة تلجأ إلى الجرس العروضي دون التقيّد الصارم بالوزن.
مما يجعلها على حافة قصيدة التفعيلة، لكنها أقرب إلى النثر الموسيقي المحكم.
قصيدة “راشيل” ليست عن راشيل فقط، بل عن الوطن الذي ينقلب على أنبل من فيه.
هي صوت من بقي ليحكي الحكاية،
ويكتب الخيانة دون مواربة،
ويقول لنا البطلات لا يُقتلن برصاصٍ في الصدر، بل برصاصةٍ في القلب… من “أختٍ” كانت تعرفهن.
قصيدة “لفتاةٍ في الجنوب تنتظر نضوجها” ليست إلا مرآة مشروخة لمستقبلٍ مُصادَر، لأنوثةٍ مُخونة، ولثورةٍ ماتت قبل أن تنضج.
لكن راشيل…
راشيل لم تمت.
وها هي ذي، في كل بيت، وفي كل مفصل لغوي،
تنظر إلينا من قلب الشعر وتسألنا:
هل كنتم معنا؟
أم كنتم ممن ذبحونا؟!