معصوم مرزوق يكتب لـ«الحرية»: قوة الردع النووي والسلام

معصوم مرزوق يكتب لـ«الحرية»: قوة الردع النووي والسلام

يجب أن أعترف في البداية أن هذا مقالاً قدماً ، وأن هذه ليست أول مرة أكتب فيها عن هذا الموضوع ، وأذكر علي سبيل المثال مقالي بعنوان :
” القنبلة النووية المصرية ” ، الذي كتبته في بداية التسعينات ، وحتي لا أكرر نفسي أكتفي هنا بالإشارة فقط إلي أنني برهنت في هذا المقال علي أن إسرائيل لن تتخلي طواعية عن قدراتها النووية ، وطالما استمرت منفردة بذلك في منطقة الشرق الأوسط فأنه من المستحيل أن يتحقق السلام العادل والشامل ، وذلك بسبب هذا الخلل الرهيب في موازين القوي وخاصة في ميزان الرعب النووي ،

وللخروج من هذا المأزق فهناك طريقان : إما أن ترغم إسرائيل علي التخلي عن ترسانتها النووية وهذا يبدو مستحيلاً ، وإما أن تتوافر القدرة النووية لدي دولة أخري في الشرق الأوسط حتي يتحقق التوازن المطلوب الذي بدونه لا يمكن أن يتحقق السلام الحقيقي .. وهذا ممكن …

هذه الخلاصة البسيطة ليست إعتسافاً فكرياً أو تهوراً سياسياً ، وإنما هي إستنتاج لدراسات متعمقة – لا مجال لتفصيلها هنا – للتاريخ الإنساني وخاصة في محنة الحرب والسلام ، يمكن تلخيصها في أن الحرب كانت في الأغلب الأعم نتاج خلل في توازن القوي ، بينما كان السلام في الأغلب الأعم أيضاً هو نتاج توازن القوي ..

روشتة كيسنجر :
كان هنري كيسنجر في أحد كتبه ( هل تحتاج أمريكا سياسة خارجية ؟ ) ، قد تعرض لهذا الموضوع في معرض حديثه عن التسليح النووي في الهند وباكستان ، فقد قال أن أمريكا لديها كل الحق في محاولة تحقيق منع الإنتشار النووي ، إلا أن رئيسي وزراء كل من الهند وباكستان لديهما أيضاً كل الحق في تحقيق أهدافهما من التسليح النووي.

ومن ناحية أخري قال هنري كيسنجر أن الأمم لديها علي الأقل ثلاثة دوافع لبناء برامجهم النووية وهي:
1- الرغبة في أن يكونوا قوة عالمية علي أساس أن الأمة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها ضد إحتمالات مختلفة من الخطر لا يمكن أن تكون قوة عالمية ، هذه الأمة سوف تمتلك الأسلحة النووية وستسعي للحصول علي مقدرة توصيلها إلي الخصم المحتمل .. وقد وضع كيسنجر الهند في هذه الطائفة .
2- طائفة أخري تشعر بتهديد من جيرانها الذين لديهم عدد أكبر من السكان وموارد أكبر ، وبإمتلاك السلاح النووي يمكنها أن تحقق الردع وعلي وجه الخصوص إذا كان
لدي الجار القوي أسلحة نووية ، وضرب مثالاً لهذه الطائفة بكل من إسرائيل والباكستان .
3- الطائفة الثالثة والأخيرة في تقسيم كيسنجر هي طائفة الأمم التي تصمم علي هز توازن القوي في مناطقهم ، وتري في الأسلحة النووية وسيلة لإرغام جيرانهم ومنع أي تدخل خارجي ، وضرب أمثلة بكل من العراق وكوريا الشمالية .

والواقع أنه إذا كان كيسنجر قد وضع إسرائيل في الطائفة الثانية ، فأن شروط هذه الطائفة تنطبق أيضاً علي الدول العربية في الشرق الأوسط حيال إسرائيل ، ولكي أزيد الأمر إيضاحاً فأنني أجد العناصر الأساسية التي وردت في كتاب كيسنجر المذكور تتفق تماماً مع الأسباب التي استندت إليها في بداية التسعينات كي استخلص أهمية إقتناء إحدي الدول العربية للقنبلة النووية كسبيل وحيد لتحقيق السلام الدائم والعادل والشامل ، وهذا الوضع قد يحقق ما هو أكثر من مجرد الردع ، وما يتجاوز سلام المنطقة إلي سلام العالم حين ترغم إسرائيل علي التفاوض للتنازل المتبادل عن إقتناء الأسلحة النووية ، وهكذا فأن حركة واحدة قد تبدو سلبية ( إقتناء دولة عربية لسلاح نووي ) ، سوف تؤدي إلي حركتين إيجابيتين هما سلام إقليمي وسلام عالمي .

دفاع عن الوجود :
من المؤكد أن هذا الطرح – في ظل ما يدور في المنطقة الآن علي الأقل – يبدو طرحاً غير عملي ، بل مغامرة غير مأمونة العواقب ، إلا أنه – مع ذلك – يبدو الطرح العملي الوحيد لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ، ورغم التناقض الظاهر فيما سبق ، فلا شك في أن مجرد الطرح قد يؤثر علي مجريات التيارات التي تعصف بالمنطقة ويوجهها التوجيه الصحيح ، فعلي سبيل المثال – وبالإشارة مرة أخري إلي كتاب كيسنجر – فأن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أن أهم أهدافها الإستراتيجية الآن هي محاربة الإرهاب والحيلولة دون إنتشار الأسلحة النووية ، ومن المؤكد أنها تدرك الآن – بعد تجربة الهند وباكستان وكذلك كوريا الشمالية – تدرك أنه من الصعب التوصل إلي الحد من أسلحة الدمار الشامل خاصة مع التقدم التكنولوجي والسهولة التي تنتقل بها تلك التكنولوجيا ، بل ولعلها تعلم الآن أن مسألة إقتناء سلاح نووي أصبحت تتوقف علي ثلاثة عوامل رئيسية ، أولها : وجود تهديد لا يمكن مواجهته بأسلحة أخري ، وثانيها : توافر الإرادة السياسية ، وثالثها : الإستعداد لتحمل الثمن السياسي والإقتصادي ، ودون الدخول في تفاصيل هذه العوامل ، فأنه قد يكون من الأنسب للولايات المتحدة الأمريكية أن تضغط وبشكل فعال علي إسرائيل كي تتخلص من أسلحتها النووية ، وتنضم إلي معاهدة حظر إنتشار تلك الأسلحة وتخضع منشآتها النووية للتفتيش ، وذلك في إطار صفقة كاملة متكاملة للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط .

وهكذا قد يقود الطرح الجاد إلي تحقيق حلم ” منطقة شرق أوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل ” ، أو إلي تحقيق السلام من خلال التوصل إلي صيغة ” توازن الردع ” ، ولا أظن أن أي كوابح سياسية أو قانونية أو أخلاقية يجب أن تحول دون ذلك ، لأنه لا يوجد ما هو أكثر قيمة سياسياً أو قانونياً أو أخلاقياً من واجب الأمم لإتخاذ كل الوسائل اللازمة للدفاع عن النفس ، بل هي وبكل وضوح دفاع عن الوجود ذاته .

تفادي الحرب القادمة :

ولعل ما يؤكد جوهر هذا الطرح هو ما يشاهده العالم كله من عربدة إسرائيلية تجاوزت حد الجنون وتهدد المنطقة كلها بإنفجار متعدد المستويات ( محلياً وإقليمياً ودولياً ) ، أن إسرائيل تؤسس حقها في هذه العربدة غير المسبوقة بما تملكه من تفوق في الأسلحة التقليدية ، إلا أن ذلك يعود إيضاً – بلا أي شك – في إمتلاكها لسلاح الرعب النووي الذي يجعل التصدي لعربدتها تجربة مستحيلة حتي ولو كانت من الجانب النفسي ، وذلك بالمناسبة هو ما تؤكده تصريحات المسئولين الإسرائيليين حالياً ، فلم يسبق لتلك التصريحات أن اتسمت بهذا القدر من الصلف وغرور القوة ، فإسرائيل الآن تهدد بضرب المنشآت النووية في إيران ، وتتحدث عن قدرتها في قصف المنشآت النووية الباكستانية ، ويتحدث رئيس وزرائها أمام الرئيس الأمريكي مؤكداً عدم إحتياج إسرائيل لمن يدافع عنها ، وذلك كله يختلف عن الصورة التي روجت لها إسرائيل منذ نشأتها ، حيث كانت تلك الصورة ترسم دولة ضعيفة مكسورة الجناح يحيط بها وحوش عربية تتأهب لإلتهامها ..

وفي الواقع لن يكسب العرب سباق التسلح بشكله التقليدي ،خاصة مع إنتهاء الحرب الباردة ، وعجز العرب عن إيجاد مصادر للتسليح تتكافئ مع ما تحصل عليه إسرائيل من ترسانة السلاح الأمريكية ، بل أن أغلب الدول العربية تحصل علي حاجتها من التسليح من الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الإستراتيجي لإسرائيل ، وذلك يعني بداهة أن العرب لن يتاح لهم أبداً تحقيق السبق أو حتي التعادل في المقدرة التسليحية التقليدية مع إسرائيل ، وهذه حقيقة أخري تؤكد علي أهمية سلاح الردع النووي العربي ، بل أنه يصبح بالنسبة للعرب أهم كثيراً من وجوده في إسرائيل ، لأن الأخيرة – حتي بإفتراض تخلصها من أسلحتها النووية – فهي بحكم علاقتها الإستراتيجية مع أمريكا تتمتع بحماية مظلتها النووية الهائلة .

وفي النهاية ، وحتي لا يساء فهم هذا المقال ، فنحن لسنا دعاة حرب أو سباق تسلح ، نحن أشد الناس إنتقاداً لأسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها ، وأكثرهم إلحاحاً علي تخليص البشرية من هذا الخطر المخيف ، نحن نؤمن بالسلام الحقيقي ، ذلك السلام الذي لا يمكن أن يتحقق – للأسف – في هذا العالم إلا مستنداً علي توازن حقيقي للقوي ، وذلك ليس إختراعاً من عندياتنا أو إنفعالات طارئة ، وإنما حقيقة من حقائق السياسة ، ويكفي القول أننا لا نطرح شيئاً يختلف عما توصل إليه كبير دهاقنة السياسة هنري كيسنجر .. فهل نرفض نصيحة ذلك الرجل الداهية ، ونفقد فرصة حقيقية للسلام ؟ … سلام الردع النووي ..

أن القادة والجنرالات قد يعرفون جيداً تجارب الحروب الماضية ويتعلمون منها الكثير ، إلا أنه من المشكوك فيه أنهم قد يعرفون تجارب الحروب القادمة لأنها ستكون تجربة بدماء وحياة الأمم ، وربما أهم جهد لهم هو أن يعرفوا كيف يتفادون الحرب القادمة ؟؟ ..