محمد سعد عبد اللطيف يكتب لـ«الحرية»: الطائفية كأداة بعد الحروب.. تفتيت الجغرافيا العربية من خلال حركات التمرد

محمد سعد عبد اللطيف يكتب لـ«الحرية»: الطائفية كأداة بعد الحروب.. تفتيت الجغرافيا العربية من خلال حركات التمرد

في عالم ما بعد الحرب الباردة، لم تعد الحروب تُعلن من على منصات الأمم المتحدة، ولم تعد الجيوش النظامية وحدها من يخوض المعارك. اليوم، تُخاض الحروب الكبرى داخل الأوطان، عبر انقسامات مذهبية وعرقية تُشعلها غرف سوداء من الخارج، وتنفذها جماعات متمردة من الداخل. لم تعد إسرائيل أو الغرب بحاجة إلى غزو مباشر، بل يكفي أن تُدعم ميليشيا هنا أو تُترك ثغرة هناك، ليبدأ مسلسل التفكك والانهيار. الطائفية لم تعد مجرد خطاب تعبوي، بل تحولت إلى أداة تفكيك فعالة، تفتك بالهوية الوطنية وتحوّل المجتمعات إلى طوائف متناحرة، تتآكل معها فكرة الدولة من جذورها.

وفي هذا السياق، لا بد من قراءة ما يجري في الجغرافيا العربية بوصفه حربًا جديدة على الوجود والهوية، يُخاض فيها الصراع باسم الدين أو العرق أو الثورة، لكن الهدف الأبعد هو تمزيق الجغرافيا وإلغاء السيادة وتعميم الفوضى.

الجغرافيا العربية وحركات التمرد

في مشهد الخرائط الممزقة للعالم العربي، لم تعد الحروب تُدار بجيوش نظامية ولا بأسلحة تقليدية، بل باتت تُخاض اليوم بأدوات أكثر دهاءً: جماعات محلية متمردة، تُدار عن بعد، وتُغذى مالياً واستخباراتياً، لتحويل الدول إلى أشباح سيادية وأوطان مستباحة. لم يعد الهدف تدمير الجيوش النظامية، بل إنهاك الدول من الداخل، عبر استنزاف طويل، صامت وممنهج، تُستخدم فيه الشعوب ذاتها كأدوات.

في زمن التآكل البطيء، لم تعد “الدولة الفاشلة” وصفًا إعلاميًا بل مشروعًا استراتيجيًا، تُنفذ فصوله بأدوات محلية: جماعات عنيفة خارجة عن سيطرة الدولة، تُمنح موارد وتحظى بغطاء إعلامي، لتبقى نارًا تحت الرماد، تحرق أطراف الدولة، حتى تذوي تمامًا، دون طلقة واحدة من الخارج.

ومن يتأمل ما جرى ويجري في سوريا، مثلًا، يلاحظ كيف تحولت حركة احتجاج سلمية إلى صراع دولي، تُقاتل فيه على الأرض عشرات الجماعات المسلحة، بعضها تتلقى دعماً مباشراً من دول إقليمية وعالمية. لم يكن الهدف إسقاط النظام فقط، بل تفكيك الدولة، وتشظي الجغرافيا السورية إلى كانتونات، طائفية وعرقية ومذهبية.

في ليبيا، انفتحت أبواب الجحيم بعد سقوط القذافي، ليس فقط لأن النظام سقط، بل لأن الجماعات المتمردة كانت جاهزة لوراثة الفراغ، مدعومة من عواصم عربية وغربية، بحجة دعم “التحول الديمقراطي”. والنتيجة كانت دولة ممزقة، وسلاح منتشر، وصراع لا ينتهي.

أما في اليمن، فقد تكررت اللعبة بوجه آخر. حوثيون يسيطرون على العاصمة، بدعم إقليمي، وميليشيات جنوبية تطالب بالانفصال، ومجموعات قبلية مسلحة تقاتل لفرض سيطرة محلية. كل ذلك وسط انهيار تام لمؤسسات الدولة، وتدخل خارجي كثيف.

وحتى السودان، الذي دخل متأخرًا إلى نفق الفوضى، بات اليوم مثالًا صارخًا على “الدولة الفاشلة” الناتجة عن صراع جماعات مسلحة داخلية، بعضها مدعوم من الخارج، وبعضها يعمل بوظيفة الإنهاك والاستنزاف، فيما المواطن السوداني يعيش واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.

هذه ليست أمثلة معزولة، بل نمط متكرر يُشير إلى أن ما يجري في الجغرافيا العربية ليس فوضى عبثية، بل تنفيذ دقيق لاستراتيجية تآكل داخلي، كما وصفها مفكرون غربيون، تقوم على دعم مجموعات متمردة غير خاضعة لسلطة الدولة، تخلق الفوضى، وتستنزف الاقتصاد، وتُنهك الجيش والمجتمع، إلى أن تنهار الدولة تمامًا من الداخل، وتتحول إلى كيان هش، قابل للسيطرة والتطويع.

ولعل الأخطر في كل هذا، أن بعض الأنظمة العربية الثرية، المذعورة من فكرة التغيير، ساهمت في إشعال هذه الحرائق، ليس فقط لتصفية خصوم أو حماية مصالح، بل لتقديم نماذج رعب لشعوبها: “انظروا إلى سوريا واليمن وليبيا، هل تريدون هذا المصير؟”.

لقد تحول العقل العربي الحاكم في بعض هذه الدول إلى عقل شعاراتي، مغرم بالمظاهر، لا يفرق بين الحداثة الحقيقية والتحديث الإداري المجلوب بالمال. فخلف الأبراج الشاهقة والفضائيات المبهرة، لا تزال الثقافة السياسية قائمة على الولاء والطاعة والسلطة الأبوية، وهي بنية تتناقض جذريًا مع أي مشروع حداثي فكري أو سياسي.

إن الجماعات المتمردة، في هذا السياق، ليست فقط فاعلًا محليًا، بل وظيفة دولية، تشتغل على تفكيك المجتمعات من الداخل، وتمزيق النسيج الوطني، وتحويل الدولة إلى ركام من دون طلقة خارجية. هي أداة الحرب في نسختها الرابعة، حيث الجيوش لم تعد ضرورية، بل فقط خطة طويلة النفس، و”مواطنون غاضبون” يُدفعون تدريجياً نحو العنف والتطرف والانقسام، حتى يستيقظ الجميع على وطن بلا معنى.

لم تعد السيطرة بحاجة لاحتلال مباشر، بل يكفي أن تنفجر الجغرافيا العربية بالجماعات المتمردة، حتى ينهار ما تبقى من سيادة ومنطق الدولة، وتُعاد صياغة الأوطان بيد غير أبنائها…،!