مظهر شاهين: تجربتي مع رحمة الله

في لحظة خاطفة على طريق السويس، وبينما كنت أتوقف بسيارتي على نحو طبيعي، على أقصى يمين الطريق البطيء، اخترق ظهر المركبة صوتُ ارتطامٍ هائل، أعقبه اهتزاز عنيف كاد يقتلعني من مقعدي.
كانت سيارة مسرعة قد اصطدمت بي من الخلف بسرعة جنونية، فاهتز المكان، وتوقفت عقارب الوقت، واندفعت سيارتي لأكثر من عشرين مترًا، لتنتقل من أقصى يمين الطريق إلى أقصى يساره.
وعندها وجدت بعض الأغراض التي كانت في شنطة السيارة قد طارت إلى التابلوه، والكنبة الخلفية قد التصقت بالكراسي الأمامية من شدة الصدمة.
هناك، تجلى لطف الله في أسمى معانيه.
لم أصدّق، حين خرجت من الحادث، أنني ما زلت على قيد الحياة… سليمًا، أتنفس.
وبينما أنظر إلى السيارة التي اصطدمت بي، لأحاول فهم ما حدث، راودني القلق حين لاحظت أن أحدًا لم يخرج منها، ولم أتمكّن حتى من رؤية أي حركة بداخلها.
ومع أن الصدمة كانت أقوى من قدميّ، اللتين لم تعودا تحملاني، فإنني اندفعت بكل ما بقي فيّ من قوة نحو السيارة الأخرى، مدفوعًا بغريزة إنسانية فطرية، جعلتني أؤثر الاطمئنان على غيري قبل نفسي.
وما إن وصلت إليها، حتى وجدت شابًا يستند بظهره وقد فرد قدميه، ممددًا في صمت.
وضعت يدي على صدره، وسألته بصوت مضطرب: “هل أنت بخير؟”، فأجابني بصوت واهن: “نعم”.
الحمد لله… وجدته حيًّا، فتنفست الصعداء، وامتلأ قلبي بحمدٍ عميق لله على نجاته.
وفي تلك اللحظة، بدأت سيارات تتوقف واحدة تلو الأخرى على جانبي الطريق.
جاء رجالٌ لا أعرفهم، لكنهم تجسّدوا في أجمل صور الشهامة المصرية، اندفعوا نحونا بكل نخوة وصدق، ليطمئنوا علينا ويساعدوا بما يستطيعون، دون أن ينتظروا شكرًا أو يعرفوا أسماءنا. كانوا وجهًا نقيًّا للرجولة الأصيلة، وروحًا صافية من عطاء الوطن وإنسانيته.
تلك اللحظات أعادت إليّ حقيقة لا تغيب، لكنها كثيرًا ما تُنسى وسط زحام الحياة: أن الموت يأتي بغتة، دون سابق إنذار، ودون تمهيد أو ترتيب.
لحظة واحدة كانت كافية لأن أكون بين يدي الله. لحظة واحدة قد لا تُترك فيها فرصة لاعتذار، أو توبة، أو حتى وداع.
وما الحياة إلا فرصة عابرة لا تستحق أن نتنازع فيها، أو نتكالب على متاعها الزائل، فالدنيا أهون وأرخص من أن نتصارع أو نحقد أو نظلم لأجلها.
قال الله تعالى: “كل نفس ذائقة الموت”،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.
وفي الوقت الذي كان بعض الحاضرين يطمئنون فيه على سلامة جسدي من أي كسور أو جروح، كنت أردد في يقين: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، لا اعتراضًا بل تسليمًا، ولا جزعًا بل حمدًا لله الذي نجّاني بلطفه: “وما بكم من نعمةٍ فمن الله”.
لم تمر دقائق حتى وصل رجال الشرطة والمرور، وأدّوا واجبهم بمهنية عالية.
سألونا عن حاجتنا إلى الإسعاف أو التوجّه إلى أي مستشفى، لكنني طمأنتهم، كما طمأنني الأخ الآخر، وقررنا ألا نحرر أي محضر، فقد كان واضحًا أنه لم يتعمد الحادث، وسيارته قد لحقت بها أضرارٌ بالغة.
اتفقنا أن يتحمّل كلٌّ منا إصلاح ما أصاب سيارته، مستودعين الله ما ضاع، مستبشرين بقوله تعالى:
“وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم”.
إن ما شهدته في هذه اللحظات لا يمكن تفسيره إلا بأنه لطف الله، ذاك الاسم الإلهي الذي يجمع معاني الرحمة والستر والتدبير الخفي، والذي يتدخل به الله في أدق تفاصيل حياة عباده، فينجيهم من الهلاك دون أن يشعروا بكيفية النجاة.
يقول سبحانه: “الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز”.
فكم من بلاءٍ صرفه الله عنّا بلطفه قبل أن نراه، وكم من موتٍ تأجّل برحمةٍ لم نُدركها، وكم من مصيبةٍ أُنقذنا منها بتدبيرٍ لا تراه العيون، لكن تستشعره القلوب في نجاةٍ لا تُفسَّر إلا بقولنا:
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
ومن وحي هذا الحادث، أوجّه ندائي إلى شبابنا جميعًا:
لا تسرعوا، ولا تستهينوا بسيارة متوقفة على جانب الطريق، فإن الأرواح غالية، والحياة لا تُعوّض.
كما أتوجّه بخالص الشكر لكل رجلٍ شهمٍ أوقف سيارته ليطمئن علينا، ولكل ضابط شرطة قام بواجبه بإخلاص، ولكل من اتصل أو أرسل رسالة يطمئن فيها على سلامتي.
وقبل الجميع، أتوجه بالشكر والعرفان إلى الله –سبحانه– الذي أنقذني بلطفه، وألهمني أن أبدأ بالاطمئنان على من صدم سيارتي قبل أن أنظر إلى نفسي.
وأشهد أنني رأيت في تلك اللحظة لطف الله بعيني، وشعرت به بقلبي، وعشت معناه بكل كياني.
فاللهم كما لطفت بنا، فالطف بكل من أحبنا واطمأن علينا، وارزقنا حُسن الظن بك، والثقة بعنايتك، والرضا بتقديرك، واجعلنا من عبادك الذين تشملهم بلطائفك الخفية، وألطافك الجلية، في الدنيا والآخرة.