زيادة حالات انتحار الجنود الإسرائيليين بعد حرب غزة: هل هي أزمة نفسية أم محاولة لإخفاء الحقائق؟

أشباح الحرب تلاحق جنودًا لا تنتهي معاركهم بمجرد تركهم ساحات القتال. آلاف الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في معركة غزة، عادوا محمّلين بآلام نفسية تفوق أي جرح جسدي. قصص الانتحار تتصاعد كصرخة مكبوتة خلف جدران صمت الجيش ووزارة الدفاع، حيث يختبئ ألم لا يُرى ويُدفن تحت ركام الإهمال والبيروقراطية. هؤلاء الجنود الذين قاتلوا لأشهر، صاروا الآن ضحايا معركة أخرى… معركة داخلية تتحدى صمت المجتمع والمؤسسة نفسها.
أرقام الانتحار ترتفع وسط صمت رسمي
تُظهر البيانات الرسمية لجيش الإحتلال الإسرائيلي أن عام 2024 شهد انتحار 21 جنديًا أثناء الخدمة، مقارنة بـ7 فقط في الشهور الأخيرة من عام 2023، بعد اندلاع الحرب في 7 أكتوبر. لكن الأرقام الكاملة لعام 2025 ما زالت طي الكتمان، في خطوة تعكس – بحسب مراقبين – رغبة الجيش في تقليص حجم الاهتمام الإعلامي بهذه الظاهرة المقلقة.ويُشار إلى أن هذه الأرقام لا تشمل الجنود الذين أنهوا حياتهم بعد تسريحهم أو أثناء فترات الإجازة، ما يجعل الرقم الحقيقي غير معروف.
صدمة ميدانية تتجاوز قدرة التحمل البشري
تُجمع شهادات المشاركين في الاعتصام، وغالبيتهم من جنود الاحتياط، على أن الانتحار ليس مجرد قرار فردي، بل نتيجة منطقية لمعاناة نفسية مروعة واجهوها أثناء الحرب. أحد الجنود تحدث عن خدمته لأكثر من 300 يوم في غزة قائلاً: “كنت أركض وسط الجثث والدماء، كل شيء احترق، المدرعة احترقت، وكل من فيها مات… لا أستطيع النوم، ولا أستطيع الكلام، ولا أجد من يسمعني”.ويضيف آخر: “عدت إلى منزلي فوجدت زوجتي تقول لي إنني أصرخ في نومي، أغضب فجأة، أرمي أشياء، لم أعد أنا. ثم تركتني”.
ويؤكد مشاركون أن الانتحار كان “الخيار الأخير لمن لم يجد مَن يصرخ باسمه”، في إشارة إلى الجنود المنتحرين الذين شعروا بالتخلي التام من المؤسسة العسكرية.
البيروقراطية تقتل الجنود مرة أخرى
يحتج جنود الاحتياط على ما يصفونه بـ”تمييز واضح” في معايير الاعتراف بالإصابة النفسية، إذ لا يُعترف بجنود وحدات الدعم مثل الحاخامية العسكرية أو وحدات معالجة الجثث، رغم أنهم يتعرضون لصدمات يومية تفوق – بحسب قولهم – ما يعيشه المقاتلون في الصفوف الأمامية.“الجيش يموّل علاجًا نفسيًا بقيمة 4500 شيكل للمقاتل، بينما نحن نحصل على 1500 فقط، رغم أننا نرى جثث زملائنا كل يوم”، يقول أحد ضباط وحدة “ملباح” المتخصصة في التعامل مع القتلى.ويضيف: “الطهاة في محيط غزة يعتبرون مقاتلين، بينما نحن لا. هذه مفارقة سخيفة، ومؤلمة. نحن لسنا على كرسي في مكتب، بل على حدود الموت يوميًا”.

احتجاجات واعتصامات: “نحن نصرخ باسم من صمتوا إلى الأبد”
منذ أكثر من 10 أيام، نُصبت خيمة اعتصام أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، تشغلها مجموعة من الجنود الذين خدموا في غزة ويواجهون اضطرابات نفسية حادة. يصرخ هؤلاء احتجاجًا على ما يعتبرونه “رميًا في الهامش بعد انتهاء المهمة”.يقول أحد المعتصمين: “نحن هنا لنقول لا للانتحار. لا نريد أن نكون رقماً جديداً في لائحة من سقطوا بصمت. لقد ضحينا بعائلاتنا وأجسادنا، فكيف تُكافئنا الدولة بالإهمال؟”.ويطالب المعتصمون بالمساواة الكاملة في الحقوق بين المصابين جسديًا والمصابين نفسيًا، مؤكدين أن الإصابة النفسية “تقتل ببطء، ولكن بفعالية”.

الخوف من المحكمة الدولية
بالتزامن مع هذه الأزمة، بدأ الجيش الإسرائيلي اتخاذ إجراءات مشددة لحماية هوية جنوده، لا سيما من شاركوا في عمليات القتل الميداني في غزة، تحسبًا لملاحقتهم قانونيًا في المحاكم الدولية، خصوصًا بعد نشر تقارير تتحدث عن استهداف مدنيين فلسطينيين بمن فيهم أطفال ونساء.وبحسب مصادر إسرائيلية، فإن رئيس أركان الجيش، إيال زامير، أصدر تعليمات بمنع ظهور الجنود في وسائل الإعلام، وتقليص تغطية الصحافة من داخل غزة، ومنع الجنود من إجراء مقابلات أو نشر صور تكشف عن ملامحهم.ترافق هذا مع تصاعد الخوف لدى الإسرائيليين من السفر إلى الخارج، لا سيما إلى أوروبا، خوفًا من الملاحقة أو الاعتداء. وألغى عشرات الإسرائيليين سفرهم، فيما طلبت وزارة الخارجية من دبلوماسييها في الإمارات العودة فورًا بعد معلومات استخباراتية عن تهديدات محتملة ضدهم.
هل يتحوّل ملف الانتحار إلى أزمة داخلية؟
ما يخشاه كثيرون اليوم هو أن يتحول ملف انتحار الجنود إلى أزمة داخلية سياسية وأمنية، تكشف عن فشل الجيش في إدارة تبعات حرب غزة البشرية والنفسية.
فالمطالبات اليوم لا تتعلق بالتعويضات فقط، بل بإعادة النظر في نظام الاستدعاء (الأمر 8)، ونظام الدعم النفسي للجنود، خاصة مع استمرار الحرب وغياب الأفق السياسي لإنهائها.أحد المعتصمين يلخص المشهد قائلاً: “نحن لسنا هنا لننتقد فقط، بل لنطلب الحياة. نطلب أن نُعامل كبشر، لا كمخلفات حرب”.
الحقيقة المؤجلة… ولكن إلى متى؟
في ظلّ التكتم العسكري والصمت الرسمي، تبقى الحقيقة الأكبر غير معلنة: ما الذي واجهه هؤلاء الجنود في غزة؟ وما الذي جعلهم ينهارون نفسيًا بهذا الشكل الجماعي؟
المشهد لا يقتصر على الألم الشخصي، بل يتقاطع مع بعد سياسي وعسكري أعمق، يتعلّق بثمن الحرب، وأكلافها النفسية، والانعكاسات الأخلاقية للقتل والدمار على من ينفّذه.