تاريخ غني وحاضر متشابك: الدروز من المبادئ العقائدية إلى التأثير السياسي

تشكل الطائفة الدرزية واحدة من أكثر الجماعات الدينية والتاريخية خصوصية في منطقة الشرق الأوسط، فهي تجمع بين عقيدة دينية عميقة وتاريخ طويل من الحضور السياسي والاجتماعي في دول سوريا ولبنان وإسرائيل والأردن. رغم حجمها المحدود مقارنة بالأطياف الأخرى، إلا أن دور الدروز في المشهد الإقليمي لا يمكن تجاهله، خاصة في ظل التطورات الأخيرة التي شهدتها محافظة السويداء جنوب سوريا، والتي أعادت تسليط الضوء على هذه الطائفة ومسائل أمنها ومصيرها.
نشأة العقيدة الدرزية
الدعوة الدرزية نشأت في أوائل القرن الحادي عشر كمذهب متفرع عن المذهب الإسماعيلي، ثاني أكبر فروع الشيعة الإسلامية. تميزت هذه الدعوة بتعليمات تجمع بين الدين والفلسفة، مع اعتمادها على تقسيم تعاليمها إلى خطاب ظاهر موجه للجميع، وخطاب باطن يختص بأتباعها. تركز العقيدة الدرزية على سبع وصايا أساسية منها الصدق، حفظ الأخوة، والبراءة من الظلم، إضافة إلى الإيمان بمفهوم التقمص الذي يُعد من أبرز خصائصها الروحية. تحرص الطائفة على الحفاظ على خصوصيتها، ويُفضل أتباعها الزواج داخل الطائفة فقط.
التوزع السكاني والانتشار الجغرافي
يُقدّر عدد الدروز في العالم بأكثر من مليون نسمة، موزعين بين عدة دول في الشرق الأوسط:في سوريا: يعيش حوالي 700 ألف درزي في مناطق جبلية تتركز أساسًا في محافظة السويداء وأطرافها، مع وجود تجمعات في مناطق قريبة من دمشق.في لبنان: ينتشر الدروز في جبال الوسط وجنوب لبنان، ولهم حضور سياسي واجتماعي بارز، خاصة بعد تاريخ طويل من النشاط السياسي الذي برز من خلال شخصيات مثل كمال جنبلاط.في إسرائيل: يحظى الدروز بوضع خاص، فهم معترف بهم رسميًا كطائفة مستقلة ويخدمون في الجيش الإسرائيلي، مما يمنحهم موقعًا مميزًا في المجتمع الإسرائيلي.
الدور السياسي والاجتماعي
عرفت الطائفة الدرزية تاريخًا حافلًا في النضال السياسي والاجتماعي. ففي لبنان، كان الزعيم كمال جنبلاط رمزًا بارزًا ومؤثرًا في الحياة السياسية، في حين خاض سلطان باشا الأطرش في سوريا ثورة ضد الانتداب الفرنسي في الثلاثينيات من القرن الماضي. أما في إسرائيل، فيُعتبر الدروز جزءًا لا يتجزأ من الدولة، ويشغلون مواقع مهمة في الجيش والحكومة.في سوريا، حاول الدروز الحفاظ على حياد نسبي خلال الحرب المستمرة منذ عام 2011، لكن الأحداث الأخيرة في السويداء دفعت الطائفة إلى الصدام المباشر مع بعض الفصائل المسلحة، ما تسبب في سقوط مئات الضحايا وأثار مخاوف من توسيع دائرة العنف.

أحداث السويداء وتأثيرها على الطائفة
شهدت محافظة السويداء، في جنوب سوريا، تصاعدًا ملحوظًا في العنف بين مسلحين من الدروز والبدو، في صراع أدى إلى مقتل المئات وأدى إلى تدخل القوات الحكومية لفرض وقف إطلاق النار. جاءت هذه الاشتباكات بعد خلافات قديمة بين القبائل والمجموعات المحلية، واستغلت قوى خارجية، لا سيما إسرائيل، هذا الاضطراب لتحقيق مصالحها. وقد نفذت إسرائيل غارات جوية استهدفت القوات الحكومية في المنطقة، بحجة حماية الدروز ومنع انتشار الفصائل المسلحة، مما زاد من تعقيد المشهد وأثار جدلاً واسعًا حول السيادة الوطنية والأمن الطائفي.
مواقف القادة الدروز من الأزمة
تنوعت مواقف القادة الدروز تجاه هذه الأزمة:في لبنان، دعا وليد جنبلاط، أبرز زعماء الطائفة، إلى تجنب تصعيد الصراعات وعدم جر الطائفة إلى مواجهات دموية قد تضعها في مأزق سياسي وأمني.في سوريا، عبّر بعض مشايخ العقل والفصائل الدرزية عن انتمائهم الكامل للدولة السورية، مؤكدين أن الطائفة جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن، وأن الحلول يجب أن تكون ضمن إطار سيادة الدولة.أما في إسرائيل، فقد طالب الزعيم الروحي موفق طريف بحماية الدروز السوريين من الانزلاق في دوامة العنف، مع التأكيد على الاستقرار كمبدأ أساسي للحفاظ على الطائفة.

التحديات المستقبلية
تواجه الطائفة الدرزية تحديات متعددة بين الحفاظ على خصوصيتها الدينية والتمسك بدورها السياسي والتأثير الإقليمي. الأوضاع الأمنية الهشة في سوريا، وخصوصًا في مناطق الجنوب، تُعد اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدروز على الصمود والتوازن وسط صراعات تتداخل فيها مصالح دولية وإقليمية متعددة.يبقى الدروز طائفة ذات خصوصية فريدة، تجمع بين التراث الديني العميق والمشاركة السياسية النشطة، ولكنهم يقفون اليوم أمام مفترق طرق يحتاج إلى حنكة سياسية وحوار وطني شامل للحفاظ على وحدة وطنهم وأمنهم في مواجهة التحديات الراهنة.