طائرات مسيرة وتدخلات مسلحة: السويداء تقترب مجددًا من أزمة طائفية

طائرات مسيرة وتدخلات مسلحة: السويداء تقترب مجددًا من أزمة طائفية

في أجواء الجنوب السوري التي اعتادها بعض سكانها على حذر مستمر، تشكل محافظة السويداء – المعروفة بتسميتها بـ”مربع الأمن” الذي بدا ليونياً لا يُقهر في زمن الأزمات والفتن – أخطر حلقة منذ سنوات ضمن مسلسل الانهيار المتسارع للمؤسسات، وتجاذب النفوذ المحلي والإقليمي. ما بدا في البداية مجرد اشتباك محلي محدود تطور إلى اشتباكات دامية قرب مدينة السويداء، بعد أن تحوّلت بلدة المقوس إلى ساحة حرب للطائرات المسيّرة والقذائف الثقيلة، وكأن كل الأسلحة قد أفرغت أوراقها.في الإطار ذاته، يبدو أنّ الفزعات العشائرية التي تحركت من درعا، دير الزور ومحيطها، قدمت دعمًا مسلحًا هائلًا لأفراد عشائر البدو، في حين تمركزت فصائل محلية من أبناء السويداء دفاعًا عن حاراتها ومساجدها، وسط تسجيل عشرات القتلى والجرحى. تتداخل في هذه الأحداث مصالح محلية فئوية، فيما ظلت الدولة حاضرة كشاهد عاجز، في ضرب ينهش الثقة بعودتها لتنظيم المجتمع وضبط الأمن.

أول الشرر: حادثة اختطاف دوارة تُشعل فتيل الصراع

في قلب هذه الأزمة، تم اختطاف الشاب فضل الله دوارة، الموزع المتواضع للخضار والفواكه، أثناء طريقه من دمشق إلى السويداء، في منطقة خربة الشياب الفيلقية. وفق روايات محلية، توقفت سيارته فجأة إثر وصوله إلى نقطة جمعت مسلحين من عشائر البدو، ثم تعرض للضرب وفُقد منه محفظته، هاتفه، ومبلغ سبعة ملايين ليرة سورية، فضلًا عن شحنة الخضار والفواكه التي كانت تزن ما يقارب خمسة أطنان – خسارة مالية جسيمة بين صاحب متواضع الخدمات الزراعية، تشكل دخله الرئيسي. بل وإلى جانبها، تم توجيه ألفاظ طائفية تجاهه أثناء الاعتداء، مثل: “إنه كافر، وهذه أرضنا نحن!”.ردًا على ذلك، اعتقل مقربون من دوارة أبناء من عشائر البدو كوسيلة ضغط لاسترداد ممتلكاته، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حدة التوتر. وفي غضون ساعات، قُبض على أبناء السويداء في أحياء مثل حي المقوس، لتبدأ دوامة من الخطف المضاد والمواجهات المتسارعة.هذه الحادثة، رغم أنها قد تبدو معزولة، لكنها حملت في طياتها كل سمات انفجار أمني واجتماعي: اشتباكات مسلحة، استياء طائفي، واستهداف مدنيين اختاروا طرقاً عادية لممارسة حياتهم اليومية.

سحب مختلفة الصيغ: فزعات درعا تصل، والمقاتلون يحيطون بالمدينة

من صباح الخميس بدأ وصول أرتال مرتجلة من عناصر عشائر درعا في اتجاه جغرافيا السويداء. بنية المشاركة وسط تصاعد التوتر، قابلها انتشار جزئي لعناصر الأمن الداخلي التابعة لحاجز المسمية جنوب السويداء. ومع ذلك، تجاوزت بعض السيارات المسلحة الحواجز، لتصل إلى محيط “الصورة الكبيرة” و”لبّين”، قبل أن تدور معارك بين مسلحين من خارج المحافظة وبين فصائل محلية قاتلة.لم تقتصر الاشتباكات على استخدام الأسلحة الخفيفة، بل استخدمت قذائف آر بي جي، هاون، ذخائر معتادة، بل حتى طائرات مسيرة. وسُجل استهداف مباشر للحصول على حاجز الأمن الداخلي. تواصل الاشتباكات خلال الليل وطوال الجمعة، مع استمرار قصف منازل المدنيين، وتطبيق فعلي لحظر التجوال في شوارع السويداء.

السلاح الجوي على الأرض: طائرات مسيّرة فوق المدينة

شملت المواجهات استخدام طائرات مسيّرة، بحسب مصادر محلية في السويداء. هذه الطائرات، ظهرت لأول مرة في الصراعات بين أبناء السويداء وأبناء البادية، تعمل على تفجير نقاط التجمع أو توثيق تحركات الخصم، مما رفع الكلفة الأمنية لتأمين سماء المدينة ومنع سقوط خطأ قتلى مدنيين. كان استخدامها جزءًا من دينامية الاشتباك وتعبيرًا عن تطور غير مسبوق في مدى النزاع، ما يدق ناقوس الفتنة باعتباره الآن حرب طائفة تؤثر في مستقبل الجنوب.

حصيلة دامية: 40 قتيل وعشرات الجرحى

وبلغ عدد القتلى خلال الأيام الماضية 40 شخصًا، مع تسجيل عشرات الجرحى ما زالوا في المستشفيات المحلية، بسبب استهداف حجرات سكنية أو اشتباكات قرب مداخل القرى. الظروف الصحية محدودة، والأسرة الطبية في مواجهة ضغط هائل، وسط أزمة مستمرة في كهرباء الماء والإسعاف.هذا العدد قد يرتفع، خاصة إذا طالت المواجهات معارك عنيفة في كل حارات المدينة بمحافظات درعا ودمشق، أو تجاوزت حظر التجوال ومنعت إثبات حضور الدولة بشكل كامل.

التصعيد الطائفي: تحريض يُجهض السلم الأهلي

مواقع التواصل الاجتماعي باتت مهيئة كمسارح للتحريض، حيث انهالت المنشورات المهيجة بالإضافة لعناوين مثل “من يحملون تراب جبل السويداء” مقابل “أهل البادية الكفرة”، بعد استدعاءات لمساندة “فزعات” عشائر البدو.هذا التصعيد الطائفي يُبطل عليه صوت العقل، وهو ما حذر منه شيخ عقل الطائفة الدرزية حمود الحناوي، في تغير تاريخي: فالقضية لم تعد مجرد أمنية، بل حرب طائفية، وهو ما يستدعي تدخلًا فوريًا لمنع تحوّل الجنوب إلى فوهة انفجار مدمرة تستهوى صناع القرار في دمشق.

هيبة الدولة وهيمنة اللامبالاة

تشهد السلطة المركزية في دمشق هشاشة كبيرة في مناطق الجنوب والغوطة الشرقية. رغم تصريح وزارة الداخلية عن تدخل أمنـي “بالتنسيق مع وزارة الدفاع”، فإن الحقائق على الأرض تقول إن الدولة عاجزة عن تحريك وحدات شرطة أو جيش من دمشق، ويعتمد الأمن على عشائرية «حولف الأحياء» ومجلس ديني طائفي.محافظ السويداء، مصطفى البكور، أصدر بيانًا دعا فيه إلى ضبط النفس والاستجابة لنداءات الحوار والتصدي لمحاولة الفتنة، ولكنه أكد أيضًا أن الدولة لن تتهاون في استعادة الحقوق أو محاسبة المعتدين. رغم ذلك، ما زال التهديد قائمًا إذ تم تداول صوت صوتي له يقول فيه إنه «يجب إعادة سيادة الدولة فوراً، أو الاستعداد لحالة حرب داخلية».

دور فصيل “رجال الكرامة” في التهدئة والدفاع

فصيل “رجال الكرامة”، وهو الأكبر في السويداء وأكثره تنظيمًا، أصدر بيانًا يحمل رؤيا مزدوجة: التهدئة شرط قوة، لكن الدفاع عن النفس حق مقدس.وجاء في البيان أن “الفتن التي تنطلق اليوم تستهدف المجتمع السوري بشكل عام، وسويداء على وجه التحديد”، وأن “غياب الدولة تسبب بالانفتاح على المحاولات الخارجة عن السيطرة”. أكدوا استمرارهم في حماية الحي، والدفاع عن الجنوب إذا سُمح، لكنهم دعاوا لحماية السلم الأهلي بإيمانهم في عقلنة الملف.

الوجهاء في الوسط النافذ: هل تتدخل “سلطة العقل”؟

في منتصف الاشتباك، وجد الوجهاء المحليون أنفسهم في موقع رقابة وسطى، ما بين شيخ عقل موحد بينهم، وهو يرعى بيانات التهدئة، ومجالس مناطقية بعضها ما زال يقوده الأمن الداخلي التابع للدولة. هذه الطبقة يعتقد البعض بأنها قادرة على عبور الجبل لتلميع سويداء والعشائر ببعضها، لكن أي اختراق عبر سياسات التهدئة لم يظهر النتائج بعد.في الواقع، ما زال الخلاف متجذرًا، والتصعيد لفظي عبر الخطابات “لقمة تشجع”، وقد تنتهي هذه الدعوات أمام استمرار المسيرات المسلحة.

تهديد الجبهة الشمالية: درعا كخزان مستمر للفزعات

خطر الفزعات الدموية لا يتوقف عند حدود السويداء. فقد أعلن مصادر محلية أن أرتالًا أسلحة ثقيلة لا تزال تنسحب من ريف درعا، أو تتجه نحو الشيخ مسكين والقنيطرة. وأحيانًا تصل فصائل موالية للدولة لتؤيد وجهاء، مما يعزز انقسامًا حتى داخل صفوفها.هذا النموذج الجديد المتفجر لا يهدد فقط الجنوب السوري، بل قد يهدّد معادلة بقاء الدولة السورية بصيغتها المحدودة الحالية، ما دفع دمشق للقول إنها “لن تسمح بأن يتكرر ما حصل في دير الزور أو حسكة الآن في السويداء”.

فرص التهدئة: صوت العقل والحقوق المشتركة

رغم تقريب العامود الفقري للمواجهة، ثمة من يرى أن فرصة للتهدئة ما زالت ممكنة إذا تحركت آليات الدولة، والتقطت دعوات شيخ عقل الرجال، مرفقة بإجراءات مشتركة عسكرية وقضائيّة. المقترحات تشمل:تشكيل لجنة مشتركة بين وجهاء السويداء والبداية ومؤسسة الدولة، لإطلاق صفقة تبادل أسرى.تعزيز دور فتح الطرق بحضور أمني مشترك.الدفع بلجنة مركزية من وزارات الداخلية والدفاع والعدل والنفوس لمعالجة ملف الخطف.إصدار مرسوم رئاسي يمنع استخدام السلاح خارج المهنة ضمن أطر قانونية.تنفيذ هذه الأفكار سيمثل نقطة تحول ونجاة من فخين: الأول هو إذكاء حرب مميتة تجمع تجارب سورية في كل مكان، والثاني هو استعادة ضامن نسبي لتماسك الدولة في الجنوب.في قلب هذه المقارعة المدمّرة، تقف السويداء منهارة أمام فراغ الدولة وسيف القبائل، ومسالك السلاح الثقيل تنشر دماء الأبرياء بين الأحياء السكنية. وعلى رغم أن سويداء اعتادت تقاليد التآخي والدعة، إلا أن ما يجري اليوم يتعدى نزاعًا عشائريًا، بل معركة وجودية على نموذج الدولة نفسها.إذا لم تنجح المبادرات الدينية والأمنية في قمع التوترات، فإن ما يحدث من تثاقلات ستتحول إلى نار لا تتوقف. ولن يصمت الجبل أمام صواريخ وسماء مشحونة بهوس التفوق السياسي أو الأعراف غير الرسمية.في هذه الساعة الصعبة، تظل الأصوات العقلية هي المنقذ الأخير: من شيخ عقل الطائفة، وفصيل رجال الكرامة، حتى مجالس وحكماء البلدات. ان استجابة الدولة لمحاولات الإطفاء هذه اليوم، فقدت الفرصة لتهدئة الجنوب قبل استراق شرارة أخيرة، تبقى الأخيرة من نصيب الأبرياء.فهل تلتقط سورية نبض عقلائها، قبل أن يغرق الجنوب في صمت لا يعود سوى في كوب من الدم المخضب؟