لوس أنجلوس تعاني.. هل يتم استدعاء المارينز لمواجهة الشعب بدلاً من العدو؟

في مشهد يبدو وكأنه مأخوذ من فيلم عن حرب أهلية يلخص التناقضات العميقة التي تمزق المجتمع الأمريكي، تشتعل شوارع لوس أنجلوس باحتجاجات عنيفة تزامناً مع تصاعد المواجهة بين الإدارة الفيدرالية وحكومة ولاية كاليفورنيا.الأزمة التي انفجرت بعد حملة اعتقالات واسعة للمهاجرين تحولت إلى اختبار حاسم لمستقبل السياسات الأمريكية في ملف الهجرة الشائك، وإلى مؤشر خطير على عمق الانقسامات السياسية قبيل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.في شوارع المدينة المحترقة، تحت خٌفة الحذاء العسكري يختنق صوت الحرية بين شقوق الاسفلت، لم تعد المسألة مجرد احتجاجات على اعتقالات مهاجرين.لقد تحولت إلى اختبار صارخ لوعد أمريكا التاريخي بحقوق الإنسان، وإلى مواجهة مفتوحة بين قيم الحرية التي ترفعها البلاد شعاراً، وآلة قمعية لا تتردد في سحقها تحت سنابك الدبابات.لم تكن أمريكا بحاجة إلى عدو خارجي لتشتعل ساحتها في شوارع لوس أنجلوس، وبين الدخان واللافتات الغاضبة، انفجرت أزمة تُجسد الانقسام العميق بين البيت الأبيض وولاية كاليفورنيا. هذه المرة، لا يتعلق الأمر فقط بالهجرة أو الاقتصاد أو الأمن، بل بمستقبل اتحاد يُوشك على التصدع من الداخل. الحرية، كما وصفها البعض هناك، ماتت تحت أقدام المارينز في شوارع لوس أنجلوس، حين نزل الجنود إلى ساحة المدينة بدلًا من أن تُفتح ساحات الحوار.
خلافات متجذرة بين ترامب وكاليفورنيا
لم يكن هناك وُد يومًا بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولاية كاليفورنيا. في ثلاث محاولات رئاسية، لم يحظَ ترامب بأي انتصار انتخابي داخل هذه الولاية الديمقراطية المعروفة بثبات موقفها الليبرالي.الخلاف تأجج منذ بداية ولاية ترامب، عندما اشتعلت حرائق كارثية أكلت مساحات شاسعة من لوس أنجلوس. بدلًا من التكاتف، دخل الحاكم غيفن نيوسوم وعمدة المدينة كارن باس في سجال علني مع ترامب حول أسباب الكارثة وتمويل إعادة الإعمار، لتبدأ شرارة الخلافات التي لا تزال حتى اليوم متقدة.
الهجرة.. جذور الصراع الكبرى
في السنة الأولى لولايته، أطلق ترامب مشروعًا لترحيل مليون مهاجر غير نظامي، لتكون كاليفورنيا أول من يتصدى له. حاكم الولاية أعلنها صراحة: “لن نسمح بتنفيذ سياسات ترامب هنا”.هذه المواقف لم تكن فقط قانونية، بل امتدت لتأخذ طابعًا وجوديًا. إذ ينتمي جزء كبير من سكان الولاية إلى مجتمعات مهاجرة، ويعتمد اقتصادها على يد عاملة مهاجرة، ما جعل الصدام بين سياسات البيت الأبيض واحتياجات كاليفورنيا أمرًا حتميًا.

تحليل المشهد: بين الحُكم الفيدرالي وسلطة الولايات
ما يحدث في لوس أنجلوس هو أكثر من مجرد احتجاجات أو نزاع حول الهجرة. إنها لحظة صدام بين فكرتين لأمريكا:فكرة ترى السلطة الفيدرالية هي الحَكم الأعلى مهما كانت الخصوصيات المحلية.وأخرى، تجسدها كاليفورنيا، ترى أن لكل ولاية الحق في حماية نسيجها الاجتماعي والاقتصادي من قرارات “تعسفية” تأتي من العاصمة.هذا الصدام يُعيد إلى الواجهة سؤالًا خطيرًا: هل ما زال الدستور الأمريكي قادرًا على تنظيم علاقة واشنطن بالولايات في عصر الاستقطاب المتطرف؟
كاليفورنيا.. دولة داخل الدولة
ليست كاليفورنيا مجرد ولاية، بل رابع قوة اقتصادية في العالم، تفوق دولًا كبرى مثل ألمانيا والهند. مع 40 مليون نسمة، وأكبر عائد ضريبي يُدفع للحكومة الفيدرالية (80 مليار دولار سنويًا)، باتت تتمتع بثقل يجعلها أقرب إلى “دولة داخل دولة”.هذه القوة الاقتصادية الضخمة، الممزوجة بتنوع عرقي وثقافي واسع، منحت كاليفورنيا تفردًا جعلها تتعامل مع سياسات ترامب كمهدد مباشر لمصالحها الداخلية، وليس فقط خلافًا سياسيًا عابرًا.
الشرارة: اقتحام أماكن العمل
بدأت الأزمة الأخيرة في لوس أنجلوس عندما اقتحم عناصر الهجرة الفيدراليون مواقع عمل، واعتقلوا عشرات العمال من أصول لاتينية، معظمهم دون أوراق نظامية.
كانوا يرتدون ملابس مدنية. داهموا مواقع العمل، وخطفوا الرجال من بين أدواتهم ومكاتبهم، فيما وقف زملاؤهم عاجزين.أُغلقت الأبواب على عائلات لم تعد تعرف مصير أحبّتها. واختفى البعض في مراكز احتجاز سرية.
هنا بدأت الحرية تموت تحت أقدام المارينز. ليس في مشهد عسكري صرف، بل في اغتيال الحقوق والحريات داخل أرض يفترض أنها “عاصمة الديمقراطية في العالم”.
تصعيد غير مسبوق: الحرس الوطني في وجه المدنيين
بأمر من ترامب، نُقلت وحدات من الحرس الوطني إلى لوس أنجلوس دون موافقة حاكمها. خرق نادر للقانون الفيدرالي، لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي.
الشارع الأمريكي اعتبر القرار صادمًا، وقارن البعض بينه وبين أنظمة حكم بوليسية لا ديمقراطية.ترامب من جانبه برّر الخطوة بأنها ضرورية “لمنع الفوضى التي يسببها المهاجرون غير الشرعيين”، لكن مسؤولي الولاية يرونه تدخلًا عنيفًا وغير شرعي.
القضاء يتحرك.. والانقسام يتعمّق
أطلقت ولاية كاليفورنيا دعوى قضائية ضد إدارة ترامب. الاتهام: انتهاك القانون الفيدرالي والدستور.
في المقابل، يصرّ ترامب على أن “قرار إنزال المارينز أنقذ المدينة من الفوضى”، قائلًا: “كان يجب عليّ أن أفعل ذلك بدلًا من مسؤولين فاشلين”.
الخلاف لم يعد سياسيًا، بل أصبح دستوريًا ووجوديًا حول طبيعة الدولة الأمريكية نفسها.
أمريكا في مفترق وجودي
ما يحدث في لوس أنجلوس ليس مجرد احتجاج أو تمرّد محلي. إنه إعادة صياغة لصيغة الحكم الأمريكي في ظل تصاعد النزعات القومية والتدخلات الفيدرالية القسرية.الحرية تموت حين تحاصرها الدبابات وتُطاردها قوانين الطوارئ. وما جرى في لوس أنجلوس يُعيد كتابة سؤال كبير في التاريخ الأمريكي: هل تبقى الولايات “متحدة”، أم أن القنابل الدخانية ستكتب نهاية الوحدة من قلب مدينة الأنوار الغربية؟