موراج: مشروع يحمل المخاطر الكبرى – إسرائيل تسعى لتهجير قسري تحت مظلة المدينة الإنسانية

في قلب الركام، وعلى أنقاض مدينة أنهكها القصف، تُولد “مدينة” ليست كغيرها؛ مدينة بلا روح، بلا ملامح، تُرسم حدودها تحت فوهات البنادق، وتُخطَّط جغرافيتها كقيد جماعي على مئات الآلاف من الفلسطينيين.ليست مدينةً للنجاة، بل معسكرًا ناعمًا تُخفيه كلمات “الإنسانية”، بينما الحقيقة تقول إن رفح تتحول تدريجيًا إلى سجنٍ مفتوح، تخطط إسرائيل لإحكامه على أجساد النازحين وأحلامهم، تحت اسم “موراج“.فهل يُعاد رسم خريطة التهجير بوقاحة القرن الجديد؟ وهل يمر المشروع وسط دخان المفاوضات، كأخطر صفقة سياسية تُمرر تحت غطاء الإغاثة؟في خطوة وُصفت بأنها الأخطر منذ بدء الحرب على قطاع غزة، أعلنت إسرائيل نيتها إنشاء ما تسميه “مدينة إنسانية” جنوب القطاع، على أنقاض مدينة رفح، بهدف تجميع نحو 750 ألف فلسطيني داخلها، تحت سيطرة أمنية وعسكرية مشددة، في منطقة تُعرف باسم “محور موراج”، وهو الامتداد الجديد لمحور نتساريم الذي سبق أن أثار جدلاً واسعًا.لكن المفارقة أن هذه “المدينة” تأتي، بحسب مراقبين، في لحظة تفاوض حساسة بين إسرائيل وحركة حماس، بشأن صفقة تبادل أسرى ووقف إطلاق النار، مما يحوّل مشروع موراغ إلى عقبة كبرى أمام أي اتفاق مرتقب.
مدينة بلا حياة.. ومعسكر بحجم قضية
وفق التصور الإسرائيلي، تُقام المدينة الإنسانية بين خطي صلاح الدين وفيلادلفيا، وتُجهّز ببنية بديلة مكوّنة من وحدات متنقلة وخيام، في منطقة باتت بلا أي مقومات للحياة بسبب التدمير الشامل الذي شهدته رفح في الأشهر الأخيرة.وتؤكد الرواية الإسرائيلية الرسمية أن المدينة ستكون خالية من “العناصر القتالية”، وأن جنود جيش الإحتلال الإسرائيلي سيشرفون على نقاط التفتيش على طول المحور، لفحص العائدين، وتحديد من يُسمح له بالبقاء داخل هذه المنطقة “المنزوعة السلاح”.لكن العديد من التقارير المقربة من الحكومة الإسرائيلية تشير إلى أن الهدف السياسي العميق هو فصل سكان الجنوب عن حركة حماس، وفرض واقع جديد يسهّل فرض ترتيبات ما بعد الحرب، ضمن ما يُعرف بـ”اليوم التالي”، وهي رؤية تروّج لها تل أبيب وتدفع بها في أروقة التفاوض.
موراغ.. عقبة في وجه التهدئة
تطالب حركة حماس بانسحاب إسرائيلي كامل من محور موراج، باعتباره شرطًا أساسيًا لأي تقدم في مسار الصفقة. وتعتبر الحركة أن بقاء الجيش الإسرائيلي في هذا المحور، مع استمرار السيطرة على نقاط التفتيش، يعني فعليًا فرض معسكر اعتقال جماعي على أهالي رفح.ومن جانبها، ترفض إسرائيل هذا الشرط، وترى في موراغ نسخة محدثة من تجربة نتساريم شمالًا، التي استخدمت كممر خاضع للفحص الأمني الدقيق، قبل أن تسمح إسرائيل بعودة آلاف الفلسطينيين إلى مدينة غزة، من ضمنهم عناصر من حماس، وهو ما اعتُبر “فشلًا أمنيًا”، حسب مصادر عبرية.الجدل حول محور موراج تحوّل إلى العقدة الأصعب في محادثات وقف إطلاق النار، إذ يحاول مبعوث ترامب الخاص، ستيفن ويتكوف، التدخل لحسمها، وسط إصرار الطرفين على مواقفهما، وعدم تقديم أي تنازل ملموس حتى الآن.
المدينة كغطاء لسياسة التهجير
الخبيرة في الشأن الإسرائيلي، إلهام الشمالي، والتي تقيم قرب منطقة المحور، ترى أن الحديث عن “مدينة إنسانية” هو محاولة لتجميل مشروع تهجير منظم، يستهدف نقل ما لا يقل عن 600 ألف فلسطيني قسرًا، بعيدًا عن مراكزهم السكنية الأصلية، ضمن خطة تهدف إلى تفكيك القاعدة الشعبية لحركة حماس.وقالت الشمالي: “ما يجري هو تهجير تدريجي مدروس، بدأ بالإخلاءات القسرية من شرق القطاع نحو الغرب، والآن يتجه إلى تجميع السكان في مساحة لا تتجاوز 45 كيلومترًا مربعًا، محاطة بنقاط تفتيش، وبلا أفق للحياة الكريمة.”كما قارنت المشروع الإسرائيلي بـ”مخيم الزعتري” في الأردن، معتبرة أن تل أبيب تحاول فرض نموذج “المخيم طويل الأمد” تحت عنوان الإغاثة، بينما الهدف الحقيقي هو كسر العمق الديموغرافي لغزة وتفكيك البنية التنظيمية لحماس.
ما بعد رفح: صراع روايات ومستقبل ضبابي
وفق مصادر أمنية إسرائيلية، فإن الانسحاب من محور موراج سيُفسّر كتنازل خطير، وقد يُعيد سيناريو “الاختراق الأمني” الذي حصل في اتفاق سابق بعد العودة الجزئية للسكان إلى مناطق شمال غزة.ومن جهة أخرى، يرى محللون فلسطينيون أن خطة “المدينة الإنسانية” تُذكّر بممارسات تاريخية مريرة، وتعيد إلى الأذهان معسكرات الاعتقال النازية، بسبب ظروف التجميع، والمراقبة، والفرز الأمني الذي يُخطط لتنفيذه.وتضغط مصر بقوة لإجبار إسرائيل على الانسحاب من هذا المحور، نظرًا لوقوعه بالقرب من حدودها، ومخاوفها من أي تبعات أمنية أو ديموغرافية قد تنعكس عليها في حال انفجار الأوضاع أو انزلاقها نحو عمليات نزوح جماعي.
حين تُبنى “المدن” على ركام العدالة
في ظل هذا التصعيد السياسي والميداني، يصبح مشروع “المدينة الإنسانية” في رفح نموذجًا مريرًا لمعادلة جديدة في الشرق الأوسط: مدن بلا حياة، وتهدئة بلا سلام.
فبينما يُفترض أن التهدئة تُبنى على الحقوق والضمانات، تُبنى اليوم على الخراب والأسلاك الشائكة.
ويبقى السؤال: هل يمكن أن تقود “مدينة في قفص” إلى استقرار؟
أم أن المشروع الإسرائيلي في رفح سيغدو وقودًا جديدًا لجولة قادمة من الصراع، حيث تتحوّل “الإنسانية” إلى مجرد اسم على لافتة لمخيم كبير؟