هل بدأ الاقتصاد البريطاني مساره نحو التعافي التدريجي؟

هل بدأ الاقتصاد البريطاني مساره نحو التعافي التدريجي؟

روذرهام تسجل أعلى زيادة في الإنتاجية شمال إنجلترا منذ عام 2004

نشرت مجلة “ذا إيكونوميست” مؤخراً مقالاً افتتاحياً طريفاً وإن بدا عشوائياً بعض الشيء، يتناول الحالة الراهنة للمملكة المتحدة، واصفة إياها بنسخة وطنية من متجر “باوندلاند” للخصومات، حيث كان يُباع كل شيء بجنيه إسترليني واحد أو أقل.

وتناولت مقالات أخرى مرافقة بعضاً من المشكلات العديدة التي تواجه المملكة المتحدة، من بينها استدامة الديون على المدى الطويل، وهو أمر مفهوم في ضوء التقرير السنوي الأخير الصادر عن مكتب مسؤولية الميزانية، والذي يقدم قراءة قاتمة وصادمة للوضع المالي.

هذا التركيز يعكس إلى حد كبير المزاج العام للبريطانيين حيال بلادهم ووضعها الاقتصادي.

ومع ذلك، ورغم أجواء التشاؤم والقلق السائدة، من المعتقد أن ثمة تطورات إيجابية عميقة لا تحظى بالاهتمام الكافي، بل وربما لا يدركها حتى صانعو السياسات، حسب ما نقله موقع “بروجكت سنديكيت”.

أول هذه التطورات يتمثل في التحول البطيء ولكن المهم في الأسعار النسبية داخل سوق العقارات، وهو اتجاه بدأ قبل نحو عقد من الزمان ولا يزال مستمراً، رغم ندرة التطرق إليه.

ففي معظم الأيام، يمكن للمرء أن يقرأ مقالاً جديداً عن أسعار المساكن المرتفعة التي لا يمكن تحمّلها، وغالباً ما يكون التركيز على لندن.

ورغم أن الأسعار لا تزال باهظة – إذ تزيد عن ستة أضعاف متوسط الدخل – إلا أنها انخفضت عن مستوياتها قبل عشر سنوات، حيث كانت تقارب ثمانية أضعاف متوسط الدخل.

وهذا يعني أن الوضع لا يزال صعباً، لكنه أفضل مما كان عليه سابقاً.

تُعزى هذه التطورات إلى عدة عوامل، منها فرض ضريبة على شراء العقارات بغرض التأجير عام 2015، ثم استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” في العام التالي، إلى جانب سياسات أخرى لتقليص الطلب، بالإضافة إلى انتشار العمل عن بُعد الذي بدأ خلال جائحة كورونا.

وربما يكون لنظام الضرائب المفروض على غير المقيمين دور أيضاً.

يُضاف إلى ذلك أن لندن لم تعد المحرك الاقتصادي القوي كما كانت سابقاً، وأصبح ضعف إنتاجيتها منذ مطلع الألفية عاملاً رئيسياً في الأداء المتراجع لإنتاجية المملكة ككل.

لكن الانخفاض التدريجي في أسعار العقارات في لندن يُعد في نهاية المطاف تطوراً إيجابياً. فمشكلة القدرة على تحمّل تكاليف السكن، والعقبات التي تواجه سوق العمل والحراك الاجتماعي، يمكن تخفيفها إذا استمر هذا الاتجاه.

من المثير للاهتمام أن هذا الانخفاض المستمر في أسعار العقارات في لندن لا يبدو أنه تسبب في آثار مالية منهجية سلبية، على عكس ما حدث في فترات سابقة شهدت انفجار فقاعة الأسعار العقارية.

كما أنه لا يبدو أنه أثر سلباً على المناطق الأخرى، بل إن بعض المناطق قد تكون محصّنة أو حتى مستفيدة من التغير في أنماط الطلب على السكن، وهو ما قد يعكس تغيرات في الأداء الاقتصادي النسبي بين المناطق.

وهذا يقودنا إلى التطور الإيجابي الثاني، وهو الإنتاجية الإقليمية النسبية.

فقد كشف التقرير السنوي لإجمالي الناتج المحلي حسب المناطق، الذي أصدره مكتب الإحصاءات الوطنية الشهر الماضي، عن مؤشرات أكثر إيجابية فيما يتعلق بالنمو والإنتاجية في منطقة مانشستر الكبرى، إذ بلغت نسبة نمو الإنتاجية في هذه المنطقة الحضرية نحو ثلاثة أضعاف ما حققته لندن منذ عام 2004.

ونتيجة لذلك، لم يعد مستوى الإنتاجية هناك يقل إلا بنسبة 35% عن لندن، مقارنة بنسبة 50% تقريباً في السابق.

يُعد هذا تطوراً مهماً، إذ إن تكرار تجربة مانشستر الكبرى في مناطق حضرية أخرى قد يعزز أداء النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة على المدى الطويل.

تشير البيانات المتعلقة بالمقاطعات الفردية إلى بؤر أمل أخرى.

فعلى سبيل المثال، سجلت منطقة روذرهام في جنوب يوركشاير أعلى زيادة في الإنتاجية شمال إنجلترا منذ عام 2004.

ومن المرجح أن يعكس ذلك تأثير “مركز أبحاث التصنيع المتقدم” الذي يقع فعلياً على أطراف مدينة شيفيلد، لكنه إدارياً تابع لروذرهام.

هذان التطوران مهمان في حد ذاتهما، ومن اللافت أنهما لا يحظيان بتغطية إعلامية كافية.

لكن في رأيي، يطرح كلا التطورين إمكانية معالجة تحديات اقتصادية وطنية أخرى – تبدو في ظاهرها مستعصية – بشكل أسهل مما يتصوره العامة أو حتى الحكومة.

وهذا يشمل ما وصفه تقرير مكتب الإحصاءات الوطنية بالجنون الاقتصادي، والمتمثل في استمرار العمل بنظام “القفل الثلاثي” للمعاشات التقاعدية، الذي يضمن زيادة سنوية للمعاشات بنسبة تعادل إما معدل التضخم أو نمو الأجور أو 2.5% أيهم أعلى.

ويشمل ذلك أيضاً توقف جهود الإصلاح الطفيفة لنظام الرعاية الاجتماعية، واستعصاء إصلاح نظام “الخدمة الصحية الوطنية” والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن تقادم نظامي الضرائب والتخطيط المتعلقين بالإسكان والبناء.

ورغم صعوبة هذه التحديات، إلا أنها قابلة للحل، فكل ما تحتاجه هو عزيمة حقيقية من الساسة والمسؤولين المنتخبين، الذين يجب أن يتخلوا عن وهم أن التغييرات الشكلية قد تُحدث فرقاً حقيقياً.

ومن الغريب أن هذه التطورات الإيجابية في أسعار العقارات والنمو الإقليمي لا تحظى بالوعي الكافي، رغم أن كلا الاتجاهين يشير إلى أن المملكة المتحدة قادرة على تخطي جمودها الحالي.

فالتغييرات الجذرية والجريئة والضرورية ليست فقط ممكنة، بل قد تكون أقرب مما نعتقد، وكل ما نحتاجه هو عزيمة مستمرة لتحقيقها.