ما الأسباب التي تدفع صناديق الاستثمار للاستثمار في غرب أفريقيا؟

تشهد الساحة الاستثمارية في القارة الأفريقية، تحولاً لافتًا في بوصلة التمويل، مع توجه متزايد من قبل صناديق الاستثمار الإقليمية والدولية نحو أسواق غرب أفريقيا، على حساب وجهات أخرى مثل السوق المحلية، التي لطالما كان من أكثر البيئات جذبًا للشركات الناشئة في المنطقة.
هذا التغيير لا يأتي من فراغ، بل يرتبط بحزمة من الحوافز والتطورات الهيكلية التي أطلقتها بعض دول غرب أفريقيا خلال الأعوام الأخيرة، وعلى رأسها كينيا ونيجيريا وغانا والسنغال، والتي عمدت إلى سن قوانين داعمة لريادة الأعمال، وتقديم إعفاءات ضريبية سخية، إلى جانب استقرار نسبي في العملات المحلية.
وتتزامن هذه التغييرات مع طفرة في عدد الشركات الناشئة في تلك الدول، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا المالية، حيث نشأت كيانات واعدة جذبت انتباه كبرى صناديق رأس المال المغامر العالمية، في وقت لا تزال فيه الشركات المصرية تواجه تحديات تتعلق بارتفاع تكاليف التشغيل، وتقلبات سعر الصرف، وصعوبة التخارج.
قال محمد إيهاب، مؤسس شركة “كابيتال كاتاليستس”، إن عدداً من العوامل أسهمت في تحول وجهة صناديق الاستثمار نحو دول غرب أفريقيا، أبرزها الحوافز الضريبية التي أقرتها حكومات تلك الدول مثل قانون “Nigeria Startup Act” الذي يتضمن إعفاءات ضريبية لمدة 5 سنوات وإعفاء المستثمرين من ضريبة الأرباح الرأسمالية.
وأوضح أن هذه الحوافز، بجانب ضخامة الأسواق المحلية كالسوق النيجيرية التي يبلغ تعداده 200 مليون نسمة، والفجوة الكبيرة في الخدمات المصرفية، جعلت المنطقة بيئة جاذبة للاستثمار، ما أدى لبروز شركات كبرى مثل “Moove” و”Moniepoint”.
كما أن استقرار العملات في تلك الدول، خاصة المرتبطة باليورو، كان عاملاً إضافياً في جذب المستثمرين مقارنة بتقلبات الجنيه.
وأشار إلى أن نحو 60 -70% من تمويلات نيجيريا عام 2024 ذهبت لشركات ناشئة كبرى في مجال التكنولوجيا المالية، مؤكداً أن الحوافز الحكومية وجودة الشركات يكملان بعضهما البعض.
وأكد إيهاب، أن استقرار العملات في تلك الدول، مقارنةً بتقلبات الجنيه في السنوات الأخيرة، كان عاملاً إضافياً في جذب المستثمرين.
ومن ناحية أخرى، أدت أزمة نقص العملة الأجنبية وظهور السوق الموازية للدولار في فترات سابقة ، إلى تراجع الاستثمارات في السوق المحلية وتوجه الاستثمارات الأجنبية نحو الأسواق الأخرى منها غرب إفريقيا.
وحول ما إذا كانت الحوافز الحكومية أم جودة الشركات هي المحرك الرئيسي للنشاط، قال إن الاثنين يكملان بعضهما البعض، إذ إن القوانين هي المغناطيس الأول لجذب المستثمر، ثم تظهر جودة الشركات لاحقاً.
وحققت أفريقيا أداءً جيدًا نسبيًا من حيث نشاط رأس المال الاستثماري، رغم التحديات المستمرة، بما في ذلك انخفاض قيمة العملة وارتفاع أسعار الفائدة واستمرار ارتفاع التضخم، لتنهي القارة العام بانخفاض طفيف في جمع الأموال والصفقات مقارنة بعام 2023.
وانخفض إجمالي التمويل، بما في ذلك الأسهم والديون، بنسبة 7% على أساس سنوي من 3.5 مليار دولار عام 2023 إلى 3.2 مليار دولار أمريكي في 2024. كما شهد عدد الصفقات انخفاضًا طفيفًا بنسبة 2%، من 547 صفقة في 2023 إلى 534 صفقة 2024.
وتوقع إيهاب أن تشهد مصر تدفقات استثمارية تتراوح بين 700-800 مليون دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة حال استقرار سعر الصرف، مقترحاً إعفاء أرباح التخارج من الضرائب وتفعيل صناديق التمويل بالجنيه المصري وتعزيز نظام الرخصة الذهبية.
وواجهت بيئة المشاريع الاستثمارية في أفريقيا انخفاضًا بنسبة 22% في حجم الصفقات، و28% في قيمتها العام الماضي، نتيجة الانخفاض في الأسواق العالمية.
لكن على الجانب الآخر شهد التمويل الاستثماري العالمي انتعاشًا متواضعًا بزيادة قدرها 6% في قيمة الصفقات.
ورغم هذه الانكماشات، أظهرت الشركات الناشئة الأفريقية قدرة تنافسية ملحوظة في مراحل التمويل اللاحقة.
في جولتي التمويل من السلسلة B والسلسلة C، حصلت المشاريع الأفريقية على صفقات متوسطة بقيمة 29 مليون دولار، و38 مليون دولار على التوالي، متجاوزة المتوسط العالمي البالغ 21 مليون دولار للسلسلة B ، و35 مليون دولار للسلسلة C.
أبوالمجد: المرونة التشريعية والمزايا الحكومية تسهم في خلق بيئة أعمال محفزة
وأكد علاء أبوالمجد، خبير التحول الرقمي بشركة “جي بي فينشر”، أن دول غرب أفريقيا أصبحت وجهة جاذبة للاستثمارات بفضل استقرار عملاتها والنمو السكاني وطفرة التحول الرقمي، خاصة في قطاع التكنولوجيا المالية.
أضاف أن المرونة التشريعية والحوافز الحكومية هناك ، أسهمت في خلق بيئة أعمال محفزة، مما عزز تدفق رؤوس الأموال نحو الشركات الناشئة في المنطقة.
وحذر أبوالمجد، من تأثير هذا التحول على السوق المصرية، لأنه قد يؤدي إلى تراجع التمويل المتاح للشركات الناشئة وزيادة المنافسة على جذب المستثمرين، ما لم تُتخذ إجراءات عاجلة لتحسين مناخ الاستثمار الناشئ.
لكنه أعرب عن تفاؤله بقدرة مصر على استعادة جاذبيتها خلال ثلاث سنوات عبر تحقيق استقرار اقتصادي وتبني سياسات داعمة للابتكار، مشدداً على ضرورة تحسين بيئة الأعمال وتوفير آليات تمويل مرنة لتعزيز القدرة التنافسية.
قال أبوالمجد، إن منطقة غرب أفريقيا جذبت تدفقات كبيرة بفضل الحوافز وسعة الأسواق، لكن مصر ما زالت تحافظ على زخم تمويلي جيد وعدد مرتفع من الصفقات، ومع تسريع الإصلاحات واستقرار العملة وتسهيل التخارج، يمكن لمصر تعزيز جاذبيتها أمام الصناديق الاستثمارية خلال الفترة المقبلة.
وتابع:” في ظل هذا الدور المحوري الذي تلعبه السوق المالية في ربط المدخرات بالفرص الاستثمارية في الشركات الناشئة، تظهر رؤى الخبراء لتُبرز أهمية فهم البورصة ليس فقط كمكان لبيع وشراء الأسهم، بل كأداة للنمو الاقتصادي وتعزيز الفرص”.
مجدي: نماذج النجاح مثل “Flutterwave” و”Paystack ” تعزز ثقة المستثمرين
وقالت مارجريت مجدي، الشريك المؤسس وعضو مجلس إدارة جمعية رواد الأعمال الشباب، إن جاذبية دول غرب أفريقيا للاستثمار تعود إلى ديناميكية السوق وارتفاع نسبة الشباب، خاصة في نيجيريا، أكبر اقتصاد بالقارة، مشيرة إلى أن استثمارات رأس المال المخاطر هناك بلغت 587 مليون دولار في 2024، بانخفاض طفيف لا يتجاوز 3% عن العام السابق، ما يعكس متانة السوق رغم الأوضاع العالمية.
وأضافت أن نماذج النجاح مثل Flutterwave وPaystack ، أسهمت في تعزيز ثقة المستثمرين، معتبرة أن جودة الشركات الناشئة كانت العامل الأهم، في حين لعبت قوانين Startup Act في نيجيريا وغانا دورًا داعمًا من خلال الحوافز الضريبية وتبسيط الإجراءات.
وعلى الصعيد المحلي، أكدت مجدي أن تراجع التمويل في مصر، جاء نتيجة عوامل اقتصادية داخلية أبرزها التضخم وعدم استقرار سعر الصرف، نافية “هروب الأموال” إلى غرب أفريقيا .. فكل سوق تأثر بظروفه.
ولفتت إلى أن مصر تمر بمرحلة تصحيح وليست انهيارًا، بدليل ضخ 330 مليون دولار في السوق المحلية حتى مايو 2025، تمثل 31% من تمويل شمال أفريقيا، متوقعة تعافيًا تدريجيًا خلال الفترة المقبلة.
ورجّحت أن يرتفع إجمالي تمويل الشركات الناشئة في أفريقيا لمابين 3–4 مليارات دولار سنويًا بحلول 2027، على أن تحتفظ غرب أفريقيا بحصة بين 30–35%.
أكدت مجدي، أن مصر قادرة على استعادة موقعها ضمن “الرباعي الذهبي”، والوصول إلى تمويل سنوي يبلغ 500 مليون دولار بحلول 2027، شريطة تطبيق إصلاحات اقتصادية وتنظيمية فعالة.
وقدّمت الشريك المؤسس وعضو مجلس إدارة جمعية رواد الأعمال الشباب، خريطة طريق من 6 محاور لاستعادة الثقة، تشمل ضبط الاقتصاد الكلي، وتسهيل الإجراءات، وإنشاء مناطق حرة تكنولوجية، وتحسين شفافية المبادرات الحكومية، وتشجيع الصناديق المحلية، وأخيرًا تسويق قصص النجاح المصرية لإبراز جاذبية السوق أمام المستثمرين الدوليين.
وبينما تستمر بيئة الاستثمار في مصر في سعيها لاستعادة التوازن، تواصل غرب أفريقيا تعزيز مكانتها كبيئة خصبة لنمو الشركات الناشئة، خاصة في قطاع التكنولوجيا المالية “الفنتك”.
ويبدو أن التجربة النيجيرية على وجه الخصوص ، أصبحت نموذجًا يُحتذى به في تمكين الابتكار وتبني أدوات التمويل غير التقليدي.
سمرة: انخفاض مستويات التنظيم الحكومي يوفر بيئة خصبة للابتكار
ويرى كريم سمرة، المدير التنفيذي لشركة Change Labs، في غرب أفريقيا قصة صعود تستحق التأمل، لكنه لا يغفل في الوقت نفسه ما تملكه مصر من مقومات تؤهلها للعودة والمنافسة من جديد، بشرط تهيئة المناخ الاستثماري بالشكل المناسب.
قال سمرة، إن منطقة غرب أفريقيا تشهد طفرة غير مسبوقة في نمو الشركات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا المالية، مستفيدة من قاعدة سكانية كبيرة، وضعف البنية المصرفية، وارتفاع معدلات استخدام الهاتف المحمول.
أضاف أن تلك العوامل، إلى جانب انخفاض مستويات التنظيم الحكومي، وفّرت بيئة خصبة للابتكار، ما أسهم في تصدر التكنولوجيا المالية “الفنتك” لقائمة القطاعات الجاذبة لرؤوس الأموال المغامِرة بالقارة.
وأشار إلى أن عددًا من مسرعات الأعمال العالمية والإقليمية، وعلى رأسها Y Combinator، وسّعت من حضورها في هذه الأسواق، ما عزز البنية التحتية الداعمة لريادة الأعمال.
وأكد المدير التنفيذي لشركة Change Labs، أن مصر لا تزال من بين أكبر ثلاث وجهات أفريقية من حيث حجم استثمارات رأس المال المخاطر، وأنها تحظى باهتمام كبير من الصناديق العالمية.
أضاف أن عددًا متزايدًا من الشركات الناشئة المصرية بدأ بالتحول إلى الأسواق الخليجية والأفريقية لتوليد إيرادات بالعملة الأجنبية، بهدف تقليل المخاطر وزيادة جاذبيتها الاستثمارية.
وشدد سمرة على ضرورة أن تعمل الحكومة المصرية على تسهيل إجراءات إنشاء صناديق رأس المال المخاطر، وإعادة الأرباح بالعملة الأجنبية، فضلًا عن تبسيط تأسيس الشركات الناشئة وخروجها من السوق في حال الفشل، لضمان مرونة البيئة التنظيمية.
وأكد أهمية تعزيز البنية التحتية الرقمية – وعلى رأسها الإنترنت – في العاصمة والمناطق الحيوية، باعتبارها عنصرًا محوريًا في نجاح المنظومة الريادية.
وطالب بضرورة أن تتحرك مصر بشكل استراتيجي لتعزيز موقعها كبوابة للاستثمار في أفريقيا والشرق الأوسط، مستفيدة من موقعها الجغرافي وتنوعها الثقافي واللغوي.
وأضاف: “رغم التفوق الحالي لغرب أفريقيا في بعض المؤشرات، فإن مصر لديها الأسس التي تؤهلها للعودة بقوة وتقليص الفجوة، إذا ما تم تجاوز التحديات الحالية وتعظيم المزايا التنافسية”.