الضغوط التضخمية تجعل شركات التمويل الصغيرة والمتوسطة تتبنى الحذر.

الضغوط التضخمية تجعل شركات التمويل الصغيرة والمتوسطة تتبنى الحذر.

تشهد شركات التمويل غير المصرفي تحولًا جذريًا في طريقة إدارتها للمخاطر وتوجيه محافظها الائتمانية، بعد أن كشفت الشهور الماضية عن تصاعد غير مسبوق في معدلات التعثر، مدفوعة بتراكم الأعباء المعيشية وتدهور القوة الشرائية للشرائح المستهدفة.

وقد دفعت الضغوط الاقتصادية المتراكمة ، العديد من الشركات إلى إعادة تقييم نموذج الإقراض القائم منذ سنوات، والذي كان يرتكز على التوسع السريع في منح التمويل، ليحل محله الآن نمط أكثر تحفظًا يراعي واقع السوق المتقلب، ويشدد من إجراءات المنح، ويعيد رسم الحدود الائتمانية للعملاء.

أصبحت ظاهرة التشبع بالتمويل لدى بعض العملاء، وتعدد الجهات الدائنة، مؤشرًا خطيرًا تستشعره شركات القطاع بوضوح، إذ لوحظ تزايد لجوء بعض المستفيدين إلى الاقتراض الجديد بهدف سداد مديونيات قائمة، وهو سلوك يعمّق فجوة التعثر ويهدد استقرار المنظومة ككل.

في ظل هذا الواقع، أطلقت الشركات موجة مراجعات داخلية شملت إعادة هيكلة آليات الاستعلام، تقليص فترات السداد، وتقييد منح القروض لأصحاب التاريخ الائتماني المثقل. كما اتجهت الشركات إلى تعزيز دور فرق التحقق الميداني وتوسيع صلاحيات لجان الرقابة الداخلية، بهدف تأمين قرارات المنح من الأخطاء أو التسرع.

أرقام الهيئة العامة للرقابة المالية تعكس هذا التحول، إذ ارتفعت أرصدة تمويلات المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025 إلى 65.7 مليار جنيه مقارنة بـ55 مليارًا في الفترة نفسها من العام الماضي، وهو ما يشير إلى استمرار النمو في الحجم، غير أن عدد العملاء تراجع إلى 3.7 مليون بعد أن تجاوز 3.8 مليون عميل سابقًا، ما يؤكد أن الشركات باتت تمنح تمويلات أكبر لعدد أقل من العملاء، في محاولة لتقليل مخاطر التوزيع الواسع على شرائح مرتفعة المخاطر.

ويرى عمرو أبوالعزم، الرئيس التنفيذي لشركة “إرادة” للتمويل متناهي الصغر، أن هناك تحولًا جذريًا في مناخ التمويل خلال العامين الحالي والماضي، إذ أصبحت شركات القطاع تتعامل مع واقع جديد يفترض فيه انخفاض قدرة العملاء على السداد، حتى أولئك الذين كانوا يتمتعون بسجلات ائتمانية جيدة في السابق.

وأوضح أن التضخم المستمر، وارتفاع أسعار الخدمات الأساسية والسلع، خلق فجوة بين ما يُمنح من تمويل وما يمكن سداده فعليًا، وهو ما أدى إلى تسارع إجراءات التشديد الائتماني، خاصة من خلال الفحص الميداني المتعمق، وتقليص آجال السداد، ورفع قيمة الدفعات المقدمة، وتفعيل سياسات الضمانات الإضافية.

الشركات بدأت أيضًا استهداف نمط جديد من العملاء، يركز على أصحاب الأنشطة المستقرة ذات التدفقات النقدية المنتظمة، مع استبعاد الشرائح التي تعاني من تقلبات كبيرة في الطلب أو تعتمد على مدخلات إنتاج مستوردة، والتي باتت أكثر عرضة لتقلبات العملة والأسعار.

وتُجرى حالياً دراسات ميدانية متعمقة لتحديد المناطق التي تشهد تشبعًا بالتمويل، وإعادة توزيع المحافظ بشكل يضمن تنويعًا جغرافيًا يقلل من المخاطر المركزة.

الخطيب: تقارير دورية لإدارة المخاطر حول التغيرات في سلوك العميل أو السوق

من جانبه، أشار أحمد الخطيب، العضو المنتدب لشركة “سندة” للتمويل متناهي الصغر، إلى أن السوق بات في حاجة إلى فلسفة تمويلية جديدة، لا تكتفي بمنح التمويل فقط، بل تتضمن المتابعة اللحظية للعميل خلال دورة التمويل بالكامل. وأضاف أن الاكتفاء بتقييم العميل قبل المنح أصبح غير كافٍ، إذ إن التغيرات الاقتصادية السريعة قد تقلب موازين الجدوى الاقتصادية لأي مشروع خلال فترة قصيرة، مما يستدعي نظام متابعة ديناميكيًا قادرًا على اكتشاف التغيرات مبكرًا.

أوضح الخطيب أن شركته بدأت مؤخرًا في إعادة هيكلة آليات العمل الميداني، من خلال تدريب الموظفين على تتبع التدفقات النقدية للمشروعات بشكل شهري، وتقديم تقارير دورية لإدارة المخاطر حول أي تغيرات في سلوك العميل أو السوق المحيط به. كما أشار إلى أن هناك تركيزًا متزايدًا على جدارة الموظف الميداني نفسه، حيث بات دوره محوريًا في تقديم تقييم واقعي لمخاطر كل طلب تمويل، خاصة في ظل تزايد الضغوط على العملاء، وتنامي الحاجة لتقديرات دقيقة تتجاوز الأوراق والمستندات.

العديد من الشركات لجأت كذلك إلى تفعيل أدوات التأمين ضد مخاطر التعثر، من خلال شراكات موسعة مع شركات التأمين، مع تحميل جزء من التكلفة على العملاء، بما يضمن تغطية المخاطر المستقبلية دون التأثير المباشر على مراكز الشركات المالية.

كما جرى التوسع في استخدام نظم التحليل الرقمي والبيانات المجمعة، بهدف رسم خريطة أداء للعملاء، تتضمن مؤشرات الإنذار المبكر لأي تدهور محتمل في الالتزام بالسداد، سواء من خلال تأخرات طفيفة أو تغيرات في نشاط العميل.

ورغم ما يفرضه الواقع من تشدد، يرى أبوالعزم أن هناك فرصًا كامنة في السوق يمكن اقتناصها حال إدارة المخاطر بشكل متزن، مؤكدًا أن التمويل متناهي الصغر لا يزال أحد المحركات الرئيسية للتنمية الاقتصادية في مصر، شريطة أن يُدار بمنهج يوازن بين التمكين الاقتصادي والانضباط المالي.

وأكد أن التكنولوجيا المالية تمثل مستقبل القطاع، حيث تتيح أدوات التحليل اللحظي وتتبع الأنشطة والتحقق من الجدارة بشكل فوري، كما تُسهم في تقليل التكلفة التشغيلية وتوسيع نطاق المتابعة دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر في كل حالة.

وفى ظل الضغوط التضخمية المتتالية تعمل الهيئة العامة للرقابة المالية على النظر بصورة مستمرة فى معايير التصنيف الائتماني داخل القطاع، والتشديد على شركات التمويل لتقديم تقارير دورية عن نسب التعثر وتوزيعها الجغرافي والقطاعي، إلى جانب تعزيز التنسيق مع البنوك لضمان عدم تداخل القروض بين أكثر من جهة مانحة.

كما يتم العمل على تحديث قواعد البيانات المركزية لتسهيل الاستعلام عن العملاء من مختلف الشركات في الوقت الحقيقي، بما يقلل من فرص منح تمويل مزدوج يفاقم عبء العميل دون علم الجهات الممولة.

كل هذه المؤشرات تعكس أن قطاع التمويل غير المصرفي في مصر يمر بمرحلة تحول حقيقية، تتطلب من جميع اللاعبين في السوق إعادة تعريف أدوارهم، وتحقيق توازن دقيق بين أهداف التمكين الاجتماعي وتحقيق الربحية المستدامة.

وبينما تمثل المرحلة الحالية اختبارًا حقيقيًا لمرونة الشركات وقدرتها على إدارة الأزمات، فإنها في ذات الوقت تفتح الباب أمام موجة جديدة من الانضباط الائتماني الذي يُعيد الثقة في منظومة التمويل، ويُمهّد الطريق لنمو أكثر استقرارًا في السنوات المقبلة.