التحول الرقمي يعيد تشكيل مشهد التمويل خارج النظام المصرفي

بين موجات التضخم، وتشديد السياسة النقدية، لم يعد أمام شركات التمويل غير المصرفي، في مصر، سوى التكيف عبر أدوات أكثر مرونة، يأتي في مقدمتها التحول الرقمي.
فخلال العامين الأخيرين، أصبح من الواضح أن الرقمنة لم تعد مجرد رفاهية تقنية، بل تحولت إلى ضرورة تشغيلية واستراتيجية لإعادة هيكلة هذا القطاع الحيوي الذي يضم مزيجًا متنوعًا من الكيانات بين تمويل استهلاكي، ومتناهٍ في الصغر، وتأجير تمويلي، وتخصيم، وتمويل عقاري.
دفعت المتغيرات الاقتصادية شركات التمويل غير المصرفي إلى إعادة النظر في نماذج التشغيل التقليدية، والبحث عن أدوات تضمن لها البقاء في بيئة أصبحت فيها القدرة على التوسع مرهونة بالسرعة والكفاءة والقدرة على تقليل التكاليف وتقديم تجربة عميل ميسرة.
التحول الرقمي هنا لا يقتصر على استخدام التطبيقات أو تقديم الخدمة عبر الهاتف المحمول، بل امتد إلى محاولة إعادة هندسة العمليات التشغيلية نفسها داخل المؤسسات، وهو ما تؤكده هناء الهلالي، العضو المنتدب لشركة الخير للتمويل متناهي الصغر، التي ترى أن القطاع بأكمله يخضع حاليًا لمراجعة شاملة في آليات التشغيل، استجابة للضغوط التمويلية الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة، ونقص العملة الأجنبية، وزيادة تكاليف التشغيل.
وأشارت إلى أن عدداً من الشركات اضطر إلى ترشيد نفقاته وتخفيض مصروفاته التشغيلية، والاستثمار في كوادر بشرية لديها قدرة على تنفيذ التحول الرقمي فعليًا وليس شكليًا، خاصة في ظل منافسة متصاعدة من لاعبين جدد يمتلكون مرونة عالية ومرتكزين من الأساس على الحلول التكنولوجية.
وأكدت هناء الهلالي العضو المنتدب لشركة الخير للتمويل متناهى الصغر أن بعض القطاعات داخل منظومة التمويل غير المصرفي كانت أكثر تأثرًا من غيرها، فبينما حافظ التمويل متناهي الصغر والتمويل الرقمي على معدلات نمو إيجابية، تأثرت قطاعات التمويل الزراعي والصناعي، وكذلك المنتجات الاستهلاكية الأساسية، نتيجة صعوبة تدبير العملة الأجنبية وارتفاع تكاليف الإنتاج والتشغيل.
ولفتت إلى أن كيانات مثل «فوري» و«أمان» و«الأهلي تمكين» كانت من أكبر المستفيدين من هذا التحول الرقمي، ليس فقط بفضل البنية التحتية الرقمية، ولكن بسبب القدرة على الوصول إلى شرائح أوسع من العملاء، خاصة من خارج النطاق المصرفي التقليدي. في الوقت نفسه، لا يخلو التحول الرقمي من تحديات.
الفقي: التكنولوجيا تخدم العميل أولاً.. وظهور تأثيرها على الشركات يحتاج وقتاً
ويرى محمد الفقي، العضو المنتدب لشركة «سيمبل» لخدمات الشراء الآن والدفع لاحقًا (BNPL)، أن التأثير الحقيقي للرقمنة على أداء الشركات ما زال في طور التكوين. ويوضح أن الرقمنة حتى الآن تعني بالأساس نقل العمليات الورقية إلى بيئة رقمية – كالتوقيع الإلكتروني وتقديم الطلبات عبر الإنترنت – دون أن تمس جوهر نماذج الأعمال.
وأضاف أن التأثير المالي الإيجابي لهذه التحولات لن يظهر قبل خمس سنوات على الأقل، في حين أن المستفيد الأول منها حاليًا هو العميل، الذي أصبح بإمكانه إنهاء طلباته التمويلية دون الحاجة لزيارة الفروع أو الانتظار لفترات طويلة.
مع ذلك، فإن بعض الشركات بدأت بالفعل في تجاوز مرحلة الرقمنة التشغيلية إلى ما يمكن وصفه بالرقمنة الاستراتيجية، وذلك عبر اختبار أدوات الذكاء الاصطناعي في تقييم الجدارة الائتمانية، والتنبؤ بسلوك العملاء، وتحليل المخاطر التشغيلية.
وتشير تقارير إقليمية إلى أن حجم سوق الذكاء الاصطناعي في الخدمات المالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرشح للنمو بمعدل 35% سنويًا حتى عام 2030، مدعومًا بدخول مؤسسات إقليمية ومحلية إلى مضمار المنافسة التكنولوجية.
ولا يمكن الحديث عن رقمنة الخدمات المالية دون الإشارة إلى البيئة التنظيمية، التي شهدت تطورات مهمة في السنوات الأخيرة. فقد أصدرت هيئة الرقابة المالية والبنك المركزي قرابة 17 قرارًا تنظيميًا منذ 2022 لتأطير تقديم الخدمات المالية غير المصرفية عبر الوسائل الرقمية، وتضمين مفاهيم الهوية الرقمية، والتوقيع الإلكتروني، والتعاقد عن بعد، ومنحت رخصًا لعدد من الكيانات للعمل كمقدمي خدمات مالية رقمية أو كمستشارين آليين (Robo-Advisors)، وهي خطوات تُعد تقدمًا واضحًا نحو مستقبل أكثر مرونة.
قال محمد الفقي، العضو المنتدب لشركة “سيمبل” لخدمات الشراء الآن والدفع لاحقًا (BNPL)، إن هيكل سوق الخدمات المالية غير المصرفية في مصر لم يشهد تغيرات جوهرية رغم التسارع الكبير في وتيرة الرقمنة ونمو عدد العملاء.
وأوضح أن اللاعبين الرئيسيين ما زالوا هم أنفسهم، وأن ما تغير فعليًا هو فقط حجم التمويلات وقاعدة المستخدمين، وهو ما تؤكده تقارير الهيئة العامة للرقابة المالية، دون أن يصاحبه إعادة تشكيل فعلية لخريطة السوق.
أضاف الفقي، أن الأدوات الرقمية المستخدمة حاليًا لا تمثل قفزات تكنولوجية، وإنما هي ترجمة إلكترونية لعمليات كانت تُنفذ تقليديًا، مثل التوقيع وتقديم المستندات، ما ساهم في تحسين تجربة المستخدم دون أن ينعكس ذلك بعد على الكفاءة التشغيلية أو الأداء المالي للشركات.
وأشار إلى أن التحول الرقمي، رغم كونه ضروريًا، يفرض أعباءً مالية على الشركات من حيث تكلفة التطبيق والتشغيل، ما يقلل من هوامش الربح، مؤكدًا أن الأثر المالي الإيجابي لهذا التحول سيأخذ وقتًا للظهور، وقد لا يتحقق قبل خمس سنوات على الأقل.
وشدد الفقي على أن المستفيد الأول من الرقمنة في الوقت الراهن هو العميل، لما توفره من اختصار للوقت والجهد، بينما تظل الشركات في مرحلة استيعاب لهذه التغييرات ومحاولة تحقيق عائد ملموس منها على المدى المتوسط والطويل.
أما على مستوى السوق، فإن الأرقام تعكس بوضوح صعود التمويل الرقمي ومتناهي الصغر كأكثر الأدوات استخدامًا في ظل الظروف الاقتصادية الحالية. فقد بلغ إجمالي التمويلات الموجهة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة نحو 19.2 مليار جنيه بنهاية أبريل 2025، مقارنة بـ7.4 مليار جنيه فقط خلال نفس الفترة من العام الماضي، بزيادة 160% تقريبًا، فيما وصل عدد العملاء المستفيدين من هذه القروض إلى أكثر من 14.1 ألف عميل.
وعلى مستوى التمويل متناهي الصغر، فقد سجل 65.7 مليار جنيه بنهاية أبريل، بنسبة نمو بلغت 19% رغم انخفاض عدد العملاء إلى 3.7 مليون مقارنة بـ3.8 مليون في 2024.
ورغم هذا الزخم، لا تزال ثمة تحديات تحول دون تعميم الرقمنة بشكل كامل، أبرزها ارتفاع التكلفة الاستثمارية لتحديث البنية التحتية التكنولوجية، وتأخر صدور بعض اللوائح الفنية المرتبطة بحماية البيانات وتكامل المنصات، إلى جانب الحاجة لتأهيل كوادر بشرية قادرة على تشغيل وإدارة الأنظمة الرقمية الجديدة بكفاءة عالية. كما أن مخاطر الأمن السيبراني باتت تمثل أحد أبرز العقبات، خصوصًا مع تزايد محاولات الاختراق الإلكتروني وتعقيد قواعد الامتثال.
التحول الرقمي في التمويل غير المصرفي لا يُعد نهاية الرحلة، بل هو الخطوة الأولى نحو إعادة هيكلة أوسع وأكثر شمولًا. ويتطلب هذا التحول تنسيقًا مؤسسيًا مستمرًا بين الجهات الرقابية والقطاع الخاص، وتوفير تمويلات تحفيزية موجهة للابتكار التكنولوجي، وإجراء تحديثات دائمة على البيئة القانونية والتشريعية.
وفي المشهد المتغير، لن يكون الفائز هو الأكبر حجمًا أو الأوسع انتشارًا، بل الكيان الذي يستطيع التكيّف بسرعة، وتقديم خدمة ذكية، وتحقيق تجربة عميل متكاملة تعزز من ثقته في أدوات الاقتصاد الرقمي.