“ترامب” ينسف قرنًا كاملًا من سياسة تحرير التجارة

“ترامب” ينسف قرنًا كاملًا من سياسة تحرير التجارة

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر
الناخبون الأمريكيون يهتمون أكثر بحماية وظائفهم كعمال وليس بحقوقهم كمستهلكين

في غضون أسابيع قليلة، تمكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من نسف قرن كامل من سياسة تحرير التجارة في الولايات المتحدة من خلال حملته الواسعة لفرض الرسوم الجمركية، بحسب ما يؤكده اقتصاديون يرون أن إعادة بناء ما تم هدمه قد تستغرق وقتاً أطول بكثير.

ويقول دوج إروين، أستاذ الاقتصاد في “كلية دارتموث” والمتخصص في شؤون التجارة: “ما يمكن أن يرتفع بسرعة، لا يهبط بالضرورة بالسرعة نفسها”.

ويضيف أن الفترات السابقة من الحماية التجارية تُظهر أن إزالة الحواجز التجارية بعد فرضها قد يكون أمراً بالغ الصعوبة.

شهد عام 1930 فرض زيادات جمركية هائلة من خلال “قانون سموت-هاولي”، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه فاقم الكساد العظيم، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

ورغم أن هذه السياسات خضعت للمراجعة بعد تغيير الإدارة، إلا أن تفكيكها استغرق عقوداً، وفقاً لإروين.

أما السياسات الجمركية التي ينوي ترامب تنفيذها، والتي تشمل فرض رسوم شاملة بنسبة 10% ورسوم ثنائية إضافية، فستعيد فعلياً معدل الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية إلى مستوياته القصوى منذ عام 1909.

ويستحضر ترامب بنفسه فترة “العصر الذهبي” السابق، والذي امتد من 1870 إلى 1913، حين لم تكن هناك ضريبة دخل فيدرالية ، وكان الرئيس المستقبلي ويليام ماكينلي يدفع باتجاه تشريعات لرفع متوسط الرسوم الجمركية إلى نحو 50%.

وقال ترامب عقب تنصيبه: “كنا في أقصى حالات الثراء بين عامي 1870 و1913، تلك كانت مرحلة الدولة القائمة على الرسوم الجمركية”.

يحذر الاقتصاديون من أن الحروب التجارية باهظة التكلفة دائماً، غير أن آثار الرسوم الجمركية في العصر الحديث ستكون أشد تعقيداً وأكثر اضطراباً، نظراً لتشابك الاقتصاد العالمي واعتماد الناتج المحلي بشكل متزايد على التجارة.

ويرى إروين، أن أفضل أمل لتخفيف حدة التصعيد يكمن في أن تُستخدم الرسوم الجديدة كورقة تفاوض لانتزاع تنازلات في مجالات أخرى، سواء كانت تجارية أو دبلوماسية.

ويستشهد بما فعله الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1971، حين فرض رسماً إضافياً بنسبة 10% على جميع الواردات الخاضعة للرسوم بهدف الضغط على ألمانيا واليابان لتخفيض قيمة عملتيهما، قائلاً إنه “بمجرد أن تحقق ذلك الهدف، تم التخلي عن الرسوم”.

من المقرر أن تدخل الرسوم المعروفة باسم “الرسوم المتبادلة” حيّز التنفيذ بعد غد الأربعاء 9 أبريل، وهناك نافذة قصيرة قد تسمح لبعض الدول بالحصول على استثناءات، حتى لو بدا أن الرسوم الشاملة بنسبة 10% غير قابلة للتفاوض.

لكن، عندما تفشل هذه التكتيكات في انتزاع تنازلات، فإن الرسوم قد تبقى لعقود طويلة.

من أبرز الأمثلة على الرسوم الجمركية التي استمرت طويلاً، “ضريبة الدجاج” بنسبة 25% المفروضة على واردات الشاحنات الخفيفة، والتي تم فرضها في الستينيات رداً على ضريبة أوروبية على الدواجن الأمريكية.

هذه الرسوم لم تُرفع قط، وأدت إلى إعادة تشكيل صناعة السيارات عالمياً، غالباً بشكل غير ملائم للمصالح الأمريكية، إذ دفعت الشركات الأمريكية إلى التركيز على شاحنات ضخمة تستهلك الوقود بكثافة، على حساب تطوير سيارات صغيرة أكثر كفاءة في الأسواق الصاعدة.

عندما تُفرض الرسوم الجمركية لحماية الصناعات المحلية وإعادة توطين الوظائف، تصبح أكثر “تعقيداً”، حتى بعد تلاشي الدوافع السياسية الأصلية.

ويُعزى ذلك إلى نشوء جماعات ضغط جديدة تحتمي خلف هذه الحواجز، بالإضافة إلى ما وصفه جاري هافباور، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية والخبير في شؤون التجارة، بقوله إن “هناك مصلحة حكومية في التفاوض وانتزاع مقابل معين عند خفض الرسوم”، مضيفاً: “لا أرى أن الأمور ستتغير سريعاً”.

الرسوم الجمركية على القطاعات الحساسة سياسياً، وعلى رأسها الزراعة، تُعد الأكثر مقاومة للإلغاء.

ويشير الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس، كيفن أوروك، إلى أن الحماية الزراعية الأوروبية تعود إلى سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر، حين واجهت أوروبا تدفقاً من الحبوب الرخيصة من العالم الجديد، ولا تزال هذه السياسات قائمة حتى اليوم.

في الولايات المتحدة، يختلف طعم “كوكا كولا” عن نظيرتها في المكسيك، بسبب القيود والدعم الزراعي الذي جعل شراب الذرة عالي الفركتوز أرخص من السكر في ولايات الغرب الأوسط المتأرجحة انتخابياً، ما أدى إلى نشوء منتجات جديدة تعتمد على هذا المُحلّي الأرخص.
وقال كبير الاقتصاديين في وزارة الخارجية في عهد الرئيس جو بايدن، تشاد باون، إن هذا النوع من الحماية ضد الواردات الرخيصة “أسهم فعلياً في اختراع وتسويق منتجات جديدة”.

تستمر الرسوم الجمركية أيضاً لأنها تلقى استحسان الناخبين.

ويقول المؤرخ الاقتصادي في “جامعة ساسكس”، ألكسندر كلاين، إن الرسوم التي فُرضت خلال الحرب الأهلية الأمريكية لجمع الإيرادات استمرت طويلاً بعد انتهاء الحاجة إليها، نظراً لشعبيتها بين الناخبين ورضى رجال الأعمال المستفيدين من الحماية.

ويضيف أن “ما تُظهره لنا الوقائع التاريخية هو أن الناخبين يهتمون أكثر بحماية وظائفهم كعمال، وليس بحقوقهم كمستهلكين”.

عندما تم تفكيك رسوم “سموت-هاولي” بالكامل بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن ذلك بدافع النوايا الخيرة، بل لأنه تماشى مع المصالح التجارية الهجومية للولايات المتحدة، بحسب كلاين.

ويقول: “استفادت الولايات المتحدة من الضغط على أوروبا لإنشاء منطقة تجارة حرة، لأن السوق الأوروبي كان السوق الرئيسي لها – في وقت لم تكن فيه آسيا وأفريقيا غنيتين بما يكفي”.

أما العامل الذي قد يجعل نظام ترامب التجاري الجديد أكثر ديمومة من ولايته الرئاسية فهو احتمال أن تصبح الرسوم الجمركية مصدراً كبيراً للإيرادات الفيدرالية، تماماً كما كانت في أوجها خلال القرن التاسع عشر.

ويقول جيفري شوت، الزميل البارز في “معهد بيترسون للاقتصاد الدولي”: “إذا كانت هناك جدية فعلية في فرض رسوم دائمة لتمويل التخفيضات الضريبية، فذلك سيجعل من الصعب جداً إلغاؤها، إذ يتوجب حينها رفع ضرائب أخرى لتعويض العجز”.

من جهته، يرى كريس ميتشنر، أستاذ الاقتصاد في “جامعة سانتا كلارا”، أن استخدام ترامب للرسوم كأداة تفاوضية أو لتعزيز الصناعة المحلية محكوم عليه بالفشل، لأن الدول الأخرى سترد بالمثل، وستنظر إلى السياسات الأمريكية على أنها عرضة للتغيير المستمر.

لكنه أضاف: “إذا أصبحت الرسوم الشاملة بنسبة 10% هي الأساس، وكان الهدف المُعلن منها تحقيق إيرادات، فلا أعتقد أنهم سيرغبون في التراجع عنها”.