بين غزة واللاذقية وباب توما والسويداء والتوتر والانقسامات

أمد/ وقفات على المفارق
الوقفة الأولى… وشسع نعل عمر بن الخطّاب
قُيّض لي عام 2015 وأنا في السجن على جُرمي الكبير زيارة سوريّا العدوّة رغم دم جدّي لأمّي المجبول في ترابها شهيدًا في الثورة العربيّة السوريّة الكبرى، والجرم الأكبر في تنظيم زيارة آخرين ل”أعدائهم”؛ ذويهم أهل هذا البلد، قُيّض لي أن أقضي ليلتين في إحدى زنازين سجن “الجَلَمِة” مع خليّة داعش التي كان ألقي القبض عليها حينها في الجليل وأميرها المحامي النصراوي. أعضاؤها كانوا يصغروني سنّا وأحدهم كان من جيل بعض أبنائي ووالده شخصيّة وطنيّة اعتباريّة تربطني به معرفة عميقة. الشباب كانوا يعرفونني ويعرفون مواقفي من الأزمة السوريّة حينها، وبدأوا حديثهم معي بتردّد ومن ثمّ انساب الحديث. لم يكن واردًا في الحسبان أن أدخل معهم في نقاش عميق، لكنّي دخلت وعمّقت وفوجئوا حين خاطبتهم بما معناه: “أجيبوني أوّلا عن… هل تتشبّهون لشسع (هكذا تمامًا) نعل عمر بن الخطّاب؟! فكيف أعطى هو العهدة العمريّة لمسيحيّي القدس وأميركم البغدادي يذبح المسيحيّين في العراق وشمال سوريّا؟! ومتى سيحين دور فلسطين وإسرائيل؟!”
على الأخيرة أجاب أميرهم: “خلال عشر سنوات!”
الوقفة الثانية… والخيط الرفيع والأغلظ
جرت مياه كثيرة في الأردن قبل أن تمرّ العشر سنوات تلك، وسالت دماء كثيرة وأكثفها في غزّة، فلم تعد حربُ غزّة حربَ ال-7 من أكتوبر 2023 وردّة فعلٍ عليها، صارت حرب إبادة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، هذا إذا بقي هنالك معنى لإبادة في القواميس اللغويّة. ما تتعرّض له غزّة أكبر كثيرًا ممّا تعرّض له الساحل السوريّ وباب توما والسويداء، ولكن لا يستطيع المرء أن يتجاهل الخيط الذي يربط بين المواقع هذه وإن كان رفيعًا في هذا السياق. فما أرتكب في المواقع أعلاه رغم هوله لا يُقاس بما يرتكب في غزّة، وأيّ مقارنة في المظهر في هذا السياق هي استهانة بتمزيق أطفال غزّة قطعًا تتناثر مع شظايا قنابل القصف بالقنابل Made In USA، وبقتلهم أحياء بالتجويع تذكّر أجسادهم بأجساد نزلاء معسكرات في التاريخ سيّئة ذكر!
الخيط الرفيع هو الواصل بين التنكيل والقتل هنا والتنكيل والقتل هناك لمجرّد التنكيل والقتل؛ قتل الرضيعة ولفّها في كرتونة وقتل الطفل وقطع رأسه واعتصاب الفتاة وقتلها وقتل الكهل وقصّ شاربه، وقتل المرتّل خاشعًا لربّه، وفقط لأنّهم مختلفون عرقًا أو عقيدة أو فكرًا وحتّى رأيًا، وكلّه باسم الله الذي “أمّموا” إرادته و”ملكوها” ملكًا أميريّا، فاختار هؤلاء شعبًا وفضّله، واصطفى أولاء طائفة أو فرقة للنجاة ووعدهم، وأنعم على أولئك بأرض ملكًا أبديّا أو فتحًا أزليّا، وهو من كلّ ذلك براء!
من نافل القول وللتأكيد لا للتجديد: إنّ الخيط الأغلظ من غليظ والمغموس بكلّ قاذورات البشريّة؛ عقائديّا وحتّى كيماويّا وبيولوجيّا هو الممسوك من طرفه الأوّل بالأيادي في أروقة واشنطون ومن الثاني في تل – أبيب، ترقص طربًا على ثنيّاته تلك الأجساد صاحبة الأيادي التي تصافحت في باكوا – إذربيجان معرّجة على أنقرة فباريس في طريقها للرياض وقطر. فقط أعمى البصر والبصيرة الذي لا يرى ولا يبصر هذا الخيط بين ذرّات رمال غزّة المتعلّقة على رموش أطفال غزّة، وعلى كلّ ورقة سنديان في جبل ساحل سوريّة، أو على كلّ حجر من أحجار باب توما، أو على بركانيّة حجارة السويداء؛ يبصره ملتفّا قتلًا وتنكيلًا وتجويعًا؟!
ولكن خيطًا أخطر باهتًا يحار المرء فيه، هو الصمت الغالب؛ العربيّ والإسلاميّ إلّا من صرخة هنا أو صرخة هنالك، وإن كان الحكّام من المُحكَمِ ربط الخيط على أعناقهم رضاءً وتسليمًا لا بل وتهليلًا أحيانًا، فأين الشعوب (سؤال استنكاريّ)؟!
الوقفة الثالثة…. والفتنة
عن أيّ فتنة تتحدّثون يا هؤلاء؟! فللفتنة طرفان هذا أوّلًا، وثانيًا: ما يحدث في سوريّا ليس فتنة بين سنّة وشيعة وعلويّين ودروز، هو استقواء “عصبة” من فئة على فئة؛ جهلًا عقائديّا واجتماعيّا، وانتقامًا غرائزيّا. هو كلّ شيء من الموبقات اللّهم إلَا الفتنة، فكلّ من يحاول تصنيف الأمر في سوريّا هكذا فهو يبرئ المجرم الحقيقي!
الوقفة الرابعة… وعودة مع الأسد والشرع
غداة سقوط نظام الأسد بأيّام قليلة وتحديدًا يوم 11 كانون الأوّل 2024، نشرت مقالًا حمل العنوان: “سقوط الأسد كان في أيّار عام ال-21!” إشارة إلى يوم إعادة انتخاب نفسه، كتبت فيه: “هنا يكمن ما وراء النتائج التي نشهدها ونتائجها وعلاماتها بحكم الواقع، فهو العودة على المخطّط الانتدابيّ الفرنسيّ البائد من تقسيم سوريا. التخوّف المسنود جيوسياسيّا أنّنا بصدد أربع، إن لم يكن خمس، دويلات\ كنتونات تمامًا كما خطّط المنتدَب الفرنسيّ حينها وفشل؛ سنّية تركيّة الهوى مدينة لتركيا، وعلويّة روسيّة الهوى مدينة لروسيا، ودرزيّة إسرائيليّة- أردنيّة الهوى ومدينة لإسرائيل وربّما للأردن، وكرديّة أميركيّة الهوى مدينة لأميركا، وطلعت إيران من المولد بلا حُمّص! هذا التقسيم الميدانيّ سيبقى إلى أجل غير مُسمّى، وبغضّ النظر عن النوايا ومهما طابت، إن لم يحدث تطورٌ “فوق العادة”. وأمّا الحكم المركزي فسيكون “إسلاميّا” على الطريقة التركيّة (الأردوغانيّة – حزب العدالة والتنمية) ولعلّ في ذلك بعض تغيير إلى أفضل (إشارة إلى الهامش القائم في تركيّا) …وإلى أن يفعل الله أمرًا كان مفعولا!”
إن كان ما قيل في الاقتباس أعلاها اجتهادًا واستشرافًا يبدو أن التطوّرات الأخيرة، وخصوصًا ما حدث في السويداء، وتراجع الأكراد عن تفاهماتهم على إثرها كنتيجة حتميّة لها، صار واقعًا، ويبقى السؤال: هل أُسقِطت أردوغانيّة الشرع، ولكن ليس قبل أن يكون “المهر” دم أهل السويداء في زيجة المتعة هذه بين النظام الجديد وإسرائيل وسط تهليل “أهل العرس” من المحور السنّي “الحُكاميّ” من قطر حتّى أنقرة؟!
الوقفة الخامسة… والخمس كلمات
هي كلمات استنفرتني مؤخّرًا لِـ كمال جنبلاط تختزل الموقف إن ارعوى السوريّون؛ وسنّتهم قبل الآخرين بحكم عددهم ومسؤوليّتهم التاريخيّة: “علّمني حبّ الحقيقة جمالَ التسوية”.