“عين التينة” للكاتب الفلسطيني صافي صافي

أمد/ بعد 77 عاما من اللجوء، تأتي رواية الجيل الثاني كرواية الشعور التعب والناضج، والمتمسكة بحلم العودة؛ ثمة ثقة غريبة عجيبة بتحققها رغم ما يبدو من صعوبة تحقق الحلم.
في ربط ذكيّ وصادق وإبداعي، ما بين مشاعر الحب الرومانسية وممارسته من جهة، وبين الشعور الوطني الرومانسي تجاه العودة الى الوطن وممارسة ذلك واقعيا، مضت الرواية في جانبين متوازيين ومتقاطعين كأبدع ما يكون، من خلال علاقة ربطت فلسطيني يعيش في وطنه، وفلسطينية لاجئة تزوره؛ فقد انسجمت تلك العلاقة الرومانسية بينهما، وشعور النوستولوجيا الى الوطن، ثم لتأخذ تحولا فعليا، حيث أنه في ظل ممارسة فعل العودة الى الوطن، ولو على سبيل الزيارة، تأخذ العلاقة بينهما بعدا جديدا واقعيا. “لم نعد نهتم بأضواء المدينة الحديثة، ولا شوارعها المصطنعة….” صفحة 134. إنها إشارة للشعور الطبيعي بين الإنسان ووطنه حين يعود، فهذا هو كنزه وسعادته، ممارسة العودة والحب، وكأنهما خلقا معا، فلا حب بدون وطن، ما يكشف حداثة المستعمر الواهمة.
إضافة نوعية للأدب الفلسطيني، وللرواية المتعلقة بموضوع اللجوء والعودة، بل لربما من خلال فلسطين، تضيف الرواية للرواية العالمية التي تتعلق بالموضوع نفسه، خاصة لتلك الأجيال التي ولدت لأسر لاجئة خارج أوطانها المستلبة.
تؤكد الرواية دوما على أنها شكل خاص ومضمون خاص أيضا حتى للكاتب نفسه، وهكذا فإن ما بيننا من سرد روائي يعمق ما اختبرناه، فكل روائي راو له قصته، وله ما يقوله ويبوح به.
ما الذي سنسرده عما سرده الكاتب على مدار 140 صفحة؛ فالرواية حكاية أيضا، نقرؤها ونرويها للآخرين؟ أما الإجابة فهي سرد ما كان ويكون، سرد مكان وقضية، وسرد أزمنة، وأعمار، وذلك ما خطه الكاتب بشفافية أوحى لنا الكاتب لا لنعبئ الفراغات، بل لنعيش حالة هذا الرجل الذي يصطحب الفلسطينية اللاجئة (الزائرة) الى مسقط رأس والدها، لا مسقط رأسها، الذي حدث في الشتات.
مفتاح الفهم لهذه الحالة الروائية، هو مفتاح وجودي؛ فما أن يرحل الأب والأم، حتى يرث الأبناء الشعور، شعور الوالدين، (وأفكارهما بالرغم مما كان من نقد سابق). حين يموت الأب اللاجئ بعيدا عن بلده، فإن الابن يتجاوز الحزن العادي الى الحزن على موته بعيدا عن بيته، ومن ثم الى فعل ما؛ لكن في ظل الممكنات، فإنه في اللاوعي يعد والده (أو جده) بأنه سيعمل فعلا كي يعود الى بلدهم. وهنا فإن الابن هنا يصبح وارث الشعور، وبالتالي فإنه يكبر بسرعة.
ستيني يقيم في الضفة الغربية من هذا الزمن، لجأت أسرته من فلسطين المحتلة عام 1948، يصطحب ستينية فلسطينية من الزمن نفسه تعيش في الشتات، لجأت أسرتها الى خارج فلسطين، الى مسقط رأس والديها، إلى بلدتها الأصلية، بيسان. خلال هذا الاصطحاب، يصطحبنا الرواي-الكاتب الروائي، إلى نتف من الأزمان السابقة، إلى زمن نكبة عام 1948 وما قبلها، مستشرفا مستقبل العودة التي يراها أكيدة دون انفعالات.
تصل حنان ابنة بيسان البلاد، الى رام الله، تقيم في فندق صغير برام الله، كل ما يشغلها زيارة بيسان، فقد بدا عليها ليس الزهد في التنقل برام الله بل بالقدس أيضا. في الموعد المحدد تتوجه حنان مع زميلها الراوي من خلال رحلة لخمسين فلسطينيّ يستقلون مركبة الباص، يزورون شمال فلسطين المحتلة عام 1948، من خلال تصاريح الاحتلال. هناك يتعرضون جميعا لتحرش مستوطنين كونهم عربا فلسطينيين، يستقدمون شرطة الاحتلال، ليدور حوار عنصريا واعتقال في مكان مظلم لساعات، ولتنتهي الزيارة، بفتح الجرح من جديد. تلك باختصار هي أحداث الرواية.
هل من رمزية هنا؟
ثمة انسجام ما شعور الصداقة الملتبسة بمشاعر الحب الرومانسي والشعور الجسدي المحدود (جاء من خلال الحديث عن ملابسها أيام الجامعة، بمشاعر الزائرين الملتبسة للوطن السليب ما بين الشعور بوطن الآباء، فهما لم يعيشا فيه فعلا، وبين ممكنات تخيل أنهما يعيشانه ولو من خلال زيارة.
هذا الغموض في الشعور من طرفه وطرفها، وتذكر كيف أنها وقد شعرت بميله العاطفي تجاهها، تطلب منه برفق بأن يكون صديقا، هو غموض إبداعي، حتى أنه وبعد عقدين يبعث لها بأغنية كن صديقي لماجدة الرومي.
ثمة صدق أكان ذلك في الشعور العاطفي كونه عرف أن قلبها ليس معه من أربعة عقود، أو في شعور الارتباط بالوطن، حيث لا نجد هنا التكلف في الشعور والتعبير، فاكتفيا بتبادل الحديث، بما يحقق لها فرصة مشاهدة بيسان بلد والديها، ثم لتعود مرة أخرى الى مكان اللجوء.
في الطريق، يصبح المكان-الطبيعة مؤنسنا بل إنسانا يرافقهما، وأيضا بدون تكلف شعوري، فلا انفعال بالوطن ولا انفعال بها، كون الزمن قد مرّ، فصار العقل حاضرا واقعيا (ربما). وكأننا نحن من يعيش عمرا متقاربا مع الراوي هنا، حين نتنقل في فلسطين عالم 1948، نكون مثله في النظر والتأمل والحديث الفكري بيننا. وحتى عندما تحصل المواجهة مع المستوطنين، فإن الراوي وبالرغم من صراحته وسخريته منهم، وقت قدوم شرطة الاحتلال، إلا أنه يكون واقعيا، لذلك فإن يزهد بالتصعيد.
يتمسك الرواي والزائرة، بالوطن كحلم جميل، ونجده قويا بحتمية العودة، وما حديثه عن ملكية الأراضي إلا تفكير واقعي في التعامل مع عودة اللاجئين الى الوطن.
وهو لا يرى وطنه إلا الوطن الكامل غير المجزأ (فلسطين التاريخية)، وقد أبدع صافي صافي في شفافية التصوير دون الاضطرار الى المباشرة، من خلال الحديث عن التقاط صورة لأحد المتجولين (أبو المجد) حول مياه عين التينة، فحين يتحدثان عن تصويره مع فضاء المكان، بحيث يظهر الشخص كاملا غير منقوص، حيث تكون عبارة “أنت مع كامل جسدك ولا تري تقسيمه” صفحة 54. (ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد اخترت عنوان “برتقالة واحدة لفلسطين” لكتابي التجوالي الذي فاز بجائزة ابن بطوطة في الدورة الخامسة، 2007، بدافع رمزي غير مباشر، بأن المتجول في فلسطين التاريخية، لم يكن ليرى فلسطين مجزأة).
وكأن الاحتلال قد قرأ مشاعر المتجولين-الزائرين لوطنهم السليب، حيث تظهر لغة المحتلين المتعالية والاستشراقية العنصرية (لغة الرجل الأبيض كامل النقاء)، ففي الصفحتين 107 و108، يقصف مشاعر الفلسطينيين، من خلال اتهامهم بالفوضى، وإثبات التعالي عليهم، كونهم شعب الله المختار، بل ويصل الأمر الى التهديد باعتقالهم. لقد كانت الزيارة-السرد، هي إعادة الإطلالة على فلسطين الجرح والقضية التي لم تنته، فلا تكاد تنتهي الصفحات فعلا حتى تبدأ صفحات أخرى؛ فثمة ندبة لا تزول، بل جرح لم يلتئم بعد 7 عقود. تنتهي الزيارة على الأرض فيزيقيا، ليستأنفا-ونحن التفكير في المصير؛ فلم نصل إلى المآلات التي يجب أن تكون، خاصة بعد أن ورثنا حق العودة، بل والشعور والفعل لتحقيقها، ربما محبة منا ووفاء إلى أهلنا الذين رحلوا بعيدا عن بيوتهم.
لذلك، فقد كانا يقطعان مسافة الطريق وزمن الزيارة والتجول من خلال استعداء الماضي خاصة تهجير عام 1948، خلال ذلك استدعى تجربة العمل السياسي، فظهر النقد الحزبي والسياسي بشكل عام، والسخرية من الدجالين السياسيين.
كذلك التأمل الجمالي للوطن-الطبيعة، بل وربط ذلك علميا كونها قد درست علم الحيوان “صفحة “77”، خاصة الحديث عن الحشرات، التي قد يكون لها رمزية ما هنا.
ولعل اختيار الكاتب “عين التينة” ما بين فلسطين وسوريا، بهدف الإيحاء بغموض وطني وقومي، ووجود وحيد الجولاني كدليل، كان موفقا، ولعل تيمة الغموض هنا كان ظاهرة إبداعية مضمونا وشكلا.
كان للرقص الصوفي لمها المقدسية أثر حركي في الإيحاء بصوفية علاقة حنان والرواي بالوطن، بل وبهما معا. ثمة ربط بين الجولاني والمقدسية، بين التاريخ والجغرافيا والفن.
كان استحضار التاريخ والجغرافيا والعلم والفن، منسجما مع شخصية الرواي وشخصية حنان معا، من خلال العمر والثقافة، والأهم من خلال الإيمان بحتمية العودة.
وتأكيدا ذكيا عن ارتباط الفلسطيني بأرضه، ربط الكاتب من خلال الحوار بين حنان والراوي ما بين الطبيعة والميثولوجيا، في سياق علاقة الفلسطيني بوطنه، تلك العلاقة التي تغيب في علاقة المستوطنين بالمكان.”…. وهذه ألوان الزهور ليست من بيئتنا، لقد استوطنت هنا كما زارعوها..” صفحة 134.
ثمة حديث عن ارتباط أهل البلاد بالوطن، وهو الارتباط النفسي الحقيقي، وبين ارتباط الغزاة المستوطنين الواهم وتعرضه للانقطاع عند تغير الظروف. هدوء وعقلانية الراوي هنا تدل على الفلسطيني الواثق بوطنه؛ ففي أكثر من مكان من الرواية يعرّي الكاتب تكلف (واصطناع) مشاعر المستوطنين وسلوكياتهم وأدبياتهم مع فلسطين، “تساءلت عن اللون الأزرق..” صفحة 86″، في سياق فضح الكولينيالية العنصرية التي تلوي عنق الميثولوجيا.
وأخيرا كما بدأنا ننتهي، فإذا كانت علاقة الراوي وحنان، ملتبسة ما بين الصداقة والحب الرومانسي والجسدي، في فترة الجامعة في آخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات، كذلك في العلاقة مع الوطن السليب الذي توارثا الانتماء له دون العيش فيه، على طول علاقتهما قديما وحديثا، وعلى طول فترة التجول أثناء زيارة بيسان-عين التينة، ففي صفحة 118، نقرأ:
– وماذا تسمي علاقتكما؟
– قررنا ألا نسميها. دعي الأمور كما هي. عيشي الحياة كما هي.
ثم يزداد الاقتراب في صفحة 134″ مسكت يدها، وقبلتها، وفعلت مثلي، فتجرأت أكثر، ووضعت يدي على كتفها، وشددتها نحوي، وقبلت خدها، ففعلت مثلي، ورحنا نعيش نشوة جديدة”
ثم لتتطور العلاقة في تسارع ظاهر، فهل حسم الراوي المحب والعاشق وحنان التي التبست مشاعرها المسألة، في الفقرة الأخيرة هذه: “قلـت انزوينـا، فكانـت الزاويـة مكاننـا، ولـم نعـد نشـعر أن هنـاك أهميـة لـو اتسـخت ثيابنا، أو ازداد تصبــب عرقنــا. مــرت ســاعة، ســاعتان، فشــعر آخــرون بالنعـاس، وشـعرت أنـا وحنـان بالقـرب، فاقتربنـا، وشـعرنا بالوحـدة، فاتحدنا عناقـا وقبلاً، شـفاه حـارة جائعـة، بهـدوء صوفيـن، طاويـين، تمددنا والتصقنــا، بهــدوء، بســكينة هــذه المدينة، فحــل علينــا الإله. بهـدوء كنـا معـا، وبهـدوء اجتمعنـا، بهـدوء شـآن، وبهـدوء، بهـدوء، عشـنا معـا، ومتنـا معـا، ثـم عشـنا بسـكون”. صفحة ..أم أن ذلك كان تخيلا؟
من خلال ندوة أدرتها مع الكاتب، ذكر صافي صافي أنه أراد من خلال رواية “عين التينة” أن يحسم الرأي في أن من يرى فلسطين من خلال تصريح الاحتلال، فإنها لا يراها فعلا. وهو يذكرنا بما ذكره سعيد س في رواية عائد الى حيفا حين قال لزوجته صفية: “إنك لا ترينها، إنهم يرونك إياها” ص 12.
رواية روح ونفس وفكر وصراع عبر قصة حب يتم استعادتها، في ظل رغبة حنان باستعادة الوطن رمزيا من خلال الزيارة.
هو صدق الشعور والواقعية الطموحة، والبعد عن التكلف، مفتاح الإبداع هنا، بما يجعلنا نرشّح بقوة الرواية لجوائز الرواية العربية بل وترجمتها، وتحوليها الى فيلم عظيم الأثر.