جوع غزة يفضح تدهور الضمير العالمي

جوع غزة يفضح تدهور الضمير العالمي

أمد/ أكثر ما كشفته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هو سقوط ضمير العالم، وانكشاف التناقض الصارخ في مواقفه، تناقضه مع المبادئ التي لطالما تغنّى بها سياسيًا وفكريًا وإنسانيًا، وتناقضه مع نفسه، بين الشعارات التي يرفعها وبين مواقفه السياسية المنحازة.
فالعالم الذي لا يزال يبرّر لإسرائيل “حق الدفاع عن النفس”، ماذا يقول عن حق آلاف الأطفال في غزة الذين يموتون جوعًا؟ ماذا عن النساء، والمرضى، والمدنيين الأبرياء؟
ومن كان يصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، أين هو الآن؟ ومن يرى في تجويع أكثر من مليوني إنسان جريمة حرب مكتملة الأركان، فلماذا لا يتحرّك لإيقافها؟ لماذا لا يتحرّك إنسانيًا إن لم يكن سياسيًا؟
العالم، بكل أطيافه، القائل والصامت، يستطيع أن يفعل الكثير لتجاوز وصمة العار التي التصقت بجبينه. لكن هذا العالم، للأسف، لا تحرّكه المبادئ ولا القيم، بل تقوده مصالحه المرتبطة بالحركة الصهيونية العالمية التي تدفع العالم نحو مزيد من الانهيار والخراب. والعالم الذي يستقر على الظلم لا يمكن أن يستقيم.
شاشات العالم تنقل صور الأطفال الجائعين في غزة، والآباء العاجزين عن توفير كسرة خبز. تنقل صرخات العائلات التي تفترش الطرقات، في رحلة يائسة للهروب من الموت، ليكتشفوا في النهاية أنهم لا يهربون منه، بل يسيرون إليه.
ورغم كل هذا الجحيم، ما زال الخطاب الدولي، لا سيما في الغرب، يُكرّر عبارة: “نتفهم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، دون أن يمنح الفلسطينيين سطرًا واحدًا عن حقهم في الحياة، في الحليب، في الدواء، في الكرامة.
لكن عندما تقع الكارثة في مكان آخر، كما في أوكرانيا، تختلف ردود الأفعال، وتختلف نظرة العالم لقيمة الإنسان. فهنا إنسان، وهناك مجرد رقم.
وللأسف، هذا التناقض لم يعد حكرًا على الغرب صاحب التاريخ الاستعماري، بل تجاوزه إلى بعض دول الشرق التي تواطأت، وربما شاركت، في دعم الاحتلال. لا تكتفي بالصمت، بل تسخّر أدواتها لدعم القاتل، وتختزل القضية كلها في “حماس”.
الفلسطينيون لا يطلبون حربًا من أحد، ولا يطلبون انقلابًا في السياسات، بل يطلبون فقط الاعتراف بالكارثة، وتسميتها باسمها، والتعامل معها بما تفرضه المبادئ، أو على الأقل ما تفرضه الإنسانية.
لا حياد في المجازر، ولا رمادية في مشاهد دفن المدنيين تحت الأنقاض، بفعل قصف يستهدف حتى نقاط توزيع الطحين وعبوات الماء. الصمت هنا خيانة، لا حياد.
وأخطر ما في هذا التواطؤ أنه لا يكتفي بإطلاق يد المعتدي، بل يدمر فكرة القانون الدولي، ويمسح الجانب الإنساني من ضمير البشرية.
فإذا عجز المجتمع الدولي عن إدانة قتل الأطفال، فبماذا سيتحدث؟ وإذا تحوّل ضحايا غزة إلى مجرد أرقام تمرّ في أسفل شاشات الأخبار، فما جدوى ادّعاء القيم أصلًا؟
من حق أي دولة أن لا تنحاز سياسيًا، لكن لا يحق لها أن تسقط أخلاقيًا. لأن الصمت أمام الجريمة ليس حيادًا، بل انحيازٌ مخجل.
وإذا أراد العالم أن تمر هذه المجازر بلا موقف، فليكن صادقًا ويعترف: المبادئ لا تُطبّق على الجميع، وهناك شعوب يمكن سحقها دون أن تُحاسب القاتل.

لقد سقط الضمير العالمي سقوطًا مدويًا أمام غزة. وعليه أن يدرك أن لهذا السقوط تبعات قريبة… وستكون كارثية، لا يحتملها أحد.