إلى متى ستستمر دوامة المفاوضات؟

أمد/ بين تطلعات التهدئة ومآزق التفاوض عاد الجمود ليخيّم على مسار المحادثات بين حركة حماس والوسطاء الدوليين بعد أن قدمت الحركة ردّها الرسمي على مقترح وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. الرد وفقًا لمصادر مطلعة جاء محمّلًا بملاحظات طالت قضايا مصيرية في مقدمتها خرائط الانسحاب وآليات إدخال المساعدات وهو ما دفع بقطر ومصر إلى تجميد خطوة نقله إلى الجانب الإسرائيلي معتبرين أن الملاحظات لم ترق إلى مستوى التعديلات المقبولة بل بدت كما لو أنها انتكاسة في مسار التفاوض لا خطوة للأمام.
اجتماع الدوحة الذي عقد مساء الثلاثاء وجمع وفدَي الوساطة المصري والقطري بممثلي حماس انتهى بلا نتائج تذكر. وسطاء العملية الذين كانوا يراهنون على لحظة اختراق تقود إلى مفاوضات حاسمة فوجئوا بردود عُدّت عودة إلى الوراء لا تقدمًا نحو الحل. ولعلّ تمسّك الحركة بجملة من المطالب رغم موافقتها المبدئية على المبادرة وعلى رأسها تقليص المنطقة العازلة وضمان وقف دائم لإطلاق النار والسماح بعودة الأهالي عبر معبر رفح فُسّر على أنه افتقار للمرونة المطلوبة واشتراطات من الصعب تمريرها دون تدخل وضغوط خارجية واسعة.
الواضح أن حماس تراهن على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل السابع من أكتوبر وكأن شيئًا لم يكن. وهو رهان لا يستقيم مع الواقع حتى لو قبلت إسرائيل بالانسحاب الكامل من غزة لأن تغيّر قواعد الاشتباك بعد الحرب بات أمرًا حتميًا في العقل الإسرائيلي. فالدولة العبرية رغم ما أبدته من انفتاح على التفاوض لا تزال مهووسة بشبح السابع من أكتوبر وكل ما تسعى إليه هو ضمانات بعدم تكراره لا تصور مثالي لمستقبل القطاع.
المفارقة أن الوسطاء كانوا يتوقعون من حماس تحسينات طفيفة على المسودة لا ملاحظات تقلب الطاولة. بل ذهب بعضهم إلى اعتبار الرد مناورة سياسية لا تعكس جدية في الوصول إلى اتفاق خصوصًا أنه لم يُسلّم لإسرائيل رسميًا. أما الحديث عن خرائط الانسحاب فهو ما لم تستسغه إسرائيل إلا مشروطًا بتسليم القطاع إلى هيئة عربية أو قوة أممية تشرف على إعادة الإعمار وإعادة هندسة المشهد السياسي والأمني بما يضمن عدم عودة حماس إلى المربع الأول.
لكن حماس لم تقرأ المتغيرات جيدًا ولم تلتقط طبيعة التحول في المزاج الدولي. فلا الاحتفاظ بالأسرى بات ورقة ضغط مجدية ولا التجويع الإسرائيلي سيتوقف ما لم يكن هناك مخرج سياسي مقبول من الطرفين. إسرائيل لا تأبه لنداءات ذوي الأسرى ولا لبيانات البيت الأبيض ولا لحناجر الصحفيين. هي تمضي في سياسة العقاب الجماعي فيما تصر حماس على معركة كسر العظم ولو كلف ذلك شعبًا بأكمله.
التعويل على دور عربي ينقذ ما يمكن إنقاذه قد يكون مبررًا لكن التناقض يكمن في عقلية حركة تعتبر نفسها ندًا لقوة ترفض الخضوع للضغوط مهما كان مصدرها. في نهاية المطاف القيادات في حماس وعلى رأسها خليل الحية وعز الدين الحداد لا تملك ترف الوقت ولا رفاهية المناورة. الكرة الآن في ملعبهم والمطلوب قرار أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا إطلاق سراح الأسرى مقابل خروج آمن للقيادات لأن العناد هنا ليس بطولة بل مقامرة أخلاقية لا رابح فيها.
لا جدوى من التنديد ولا من الخطابات الحماسية في ظل واقع إنساني مأساوي. إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء بمنعها الغذاء والدواء وتمادى جيشها في التنكيل بالمدنيين لكن كل ذلك لا يبرر تمسك حماس بخيار المقاومة على طريقة إما كل شيء أو لا شيء. فالنتيجة الحتمية معروفة المزيد من الخراب والمآسي.
المفارقة أن الحركة لم تستفد من دروس المواجهات السابقة وبقيت أسيرة تصورات قديمة عن معادلات القوة والضعف. لقد ظنت أن سيناريو التفاوض سيُعيد إنتاج وقائع صفقة وفاء الأحرار الأولى متجاهلة أن الزمن تغيّر وأن موازين القوى انقلبت عليها لا لصالحها. فإذا بالنتائج العكسية تتوالى على أهل غزة وإذا بالأفق السياسي يُقفل دون أي بارقة أمل أو مسار يمكن البناء عليه. الانقسام الفلسطيني لم يعد تفصيلًا هامشيًا بل أصبح واقعًا يفاقم من عزلة القطاع ويفسد إمكانيات استعادته إلى سياق وطني جامع.
صحيح أن الظروف الإقليمية والدولية قد لعبت دورًا كبيرًا في تعقيد المشهد، إلا أن ذلك لا يعفي حماس من مسؤولية بعض الخيارات السياسية والإدارية التي عمّقت من أزمات القطاع بدل أن تسهم في التخفيف منها. وغالبًا ما بدا أن إدارة الحكم في غزة انزلقت من مشروع وطني جامع إلى سلطة أمر واقع تتسم بالتشدد وتفتقر إلى التوافق الداخلي.
لقد راهنت الحركة في أكثر من محطة على معادلات صعبة، لكنها لم تُثمر حلولًا مستدامة، ما جعل المواطن الغزي يدفع ثمن السياسات المتأرجحة والأجندات المتشابكة. وهنا لا بد من وقفة مراجعة جادة لا تُقصي أحدًا، تعيد تصويب البوصلة نحو ما يخدم مصلحة غزة ككل، بعيدًا عن منطق الغلبة أو الاستئثار