الإخوان المسلمون و”حماس” والقضية الفلسطينية: مناقشة مستمرة منذ عام 1982

أمد/ في أواخر عام 1982، وخلال مناظرة طلابية داخل الجامعة الإسلامية بغزة، اصطدمتُ مبكرًا بواحدة من أكثر العبارات التي اختصرت رؤية جماعة الإخوان المسلمين لفلسطين:
“القدس وفلسطين ليستا أغلى من مكة، وتحريرهما مؤجل إلى ما بعد التمكين ومشروع الأمة.”
هكذا أجاب خصمي في المناظرة، يحيى السنوار، بشخصيته الاندفاعية العصبية، والذي عُرف لاحقاً بلقب “صاحب الطوفان”، وكان ممثلًا عن “الكتلة الإسلامية” التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، ردًا على دعوتي لمواجهة الاحتلال باعتباره أولوية وطنية جامعة.
كنت حينها مرشحًا لمجلس الطلبة عن “الكتلة الوطنية”، تكتل ضم ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية، وحمل خطابًا وطنيًا فلسطينيًا خالصًا. أما خصومنا في الكتلة الإسلامية الإخوانية، فقد كانوا يتماهون مع الاحتلال في عدائهم لمنظمة التحرير، ويرفعون شعارات لا ترى في فلسطين وطنًا قائمًا بذاته، بل مجرد “ساحة” في معركة “الأمة”.
لم يكن غريبًا، إذًا، أن يحظوا بتسهيلات من الاحتلال للتمكين، بدءًا من المساجد والمجمع الإسلامي (مارس 1973) والجمعية الإسلامية 1974، وصولًا إلى تأسيس الجامعة الإسلامية وتمكين الإخوان منها، والأهم: التمكين في الشارع الغزي. فقد كان هذا جزءًا من مشروع إسرائيلي ممنهج منذ عام 1969، هدفه القضاء على العمل الفدائي، وضرب نفوذ منظمة التحرير، وإضعاف الكيانية الفلسطينية، وهو المشروع الذي وضعه وأشرف عليه آنذاك كل من أريئيل شارون كقائد للمنطقة الجنوبية، وشلومو غازيت منسق شؤون المناطق المحتلة في ذلك الوقت.
“الوطنية… غريزة حيوانية؟”
في تلك المناظرة نفسها، فاجأني ممثل الكتلة الإسلامية، السنوار، بتعبير أثار الاشمئزاز بين الطلاب:
“الوطنية غريزة حيوانية؛ حتى الحمار إذا خرج من قريته يعود إلى زريبته.”
ثم أضاف ساخرًا: “ونحن لسنا حمير زرائب كالآخرين.”
لم تكن هذه مجرد نكتة ساذجة، بل تعبير أيديولوجي صارخ عن ازدراء فكرة الوطن، لحساب مفهوم “الخلافة الإسلامية” أو “الأمة” التي تتجاوز الجغرافيا والتاريخ، وتستهين بالخصوصية الوطنية ومنها الوطنية الفلسطينية.
وهذا ما عبر عنه لاحقاً، صراحة وبكل وضوح المرشد العام للإخوان المسلمين مهدي عاكف في عبارته الشهيرة ” طز في الوطن طز في مصر”
لطالما اعتبر الإخوان، ولا يزالون، أن الانتماء الوطني انحراف عن العقيدة، وأن القتال لأجل “تراب فلسطين” ليس جهادًا حقيقيًا ما لم يكن جزءًا من مشروع الأمة الإسلامية الكبرى.
هذا الموقف لم يولد في لحظته، بل يعود إلى تأسيس فرع الجماعة في فلسطين عام 1946. فعلى مدار عقود، رفضت الجماعة الانخراط في الكفاح الوطني بل وقفت ضده بالتشهير والتشكيك، معتبرة أن “التمكين الإسلامي” يجب أن يسبق تحرير الأرض. وحتى عندما أنشأت حماس عام 1987، لم يكن ذلك نتيجة مراجعة فكرية، بل استجابة لتغيرات ميدانية فرضها واقع الانتفاضة.
والدليل على ذلك أنهم التحقوا فعليًا بالانتفاضة بعد أربعة أشهر من انطلاقتها، وبعد ثبات قوةاستمراريتها إذ جاء بيان حماس التأسيسي في 14 مارس 1988، بينما زُوّر تاريخه ليظهر كأنه صدر في 14 ديسمبر 1987، أي في الأيام الأولى للانتفاضة.
طوال سنوات، رأى الإخوان وحماس في منظمة التحرير ممثلًا “علمانيًا شيوعيًا غير شرعي”، ورفعوا شعارات تعلو على فلسطين، دون أن يقدموا لها فعلاً ملموسًا لا قبل الانتفاضة ولا بعدها، حيث كان جلّ نشاطهم في الإنتفاضة محصورًا في تثبيت يوم إضراب خاص بهم (14 من كل شهر)، وفرض الحجاب على النساء في الشوارع.
كانت الجامعة الإسلامية… مختبر الوعي والصدام، فلم تكن تلك المناظرة حدثًا عابرًا، بل محطة كاشفة في صراع الوعي السياسي داخل الجامعة الإسلامية، التي تحوّلت إلى مختبر مفتوح للتجاذب بين خطاب التحرير الوطني، وخطاب يرى في فلسطين مجرد مرحلة مؤقتة في مشروع التمكين الإخواني.
في الكتلة الوطنية، خضنا تلك الانتخابات بأدوات بسيطة مقيدة من الإحتلال، ولكن بأفكار واضحة: أن فلسطين وطن لا مرحلة، وأن منظمة التحرير هي التعبير الشرعي عن الهوية والكيانية الفلسطينية، لا مجرد “جبهة” هامشية في صراع مفتوح.
اليوم لم يتغيّر شيء،فبعد أكثر من أربعة عقود، أصبح الخصم في تلك المناظرة قائدًا لحماس في غزة، وصاحب طوفان نكبوي مشبوه.
أما أنا، فما زلت مؤمنًا أن الوطن ليس غريزة، بل وعي وكرامة وانتماء.
وأن فلسطين لا تُؤجل ولا تُختصر، وأن الاحتلال لا يُقاوَم بشعارات فوقية ولا بحقائب الدولارات النقدية وما خلفها، بل بمشروع وطني مستقل نابع من الناس، لا مفروض عليهم من فوق لتمرير مشاريع إقليمية.
“فذكّر، إن نفعت الذكرى”… ولا عزاء لمن فقدوا البوصلة.