تجاهل الإنسانية في ظل الاحتلال: السلاح الخارج عن السيطرة في السويداء يُشكّل تهديداً لبقاء الطائفة الدرزية

تجاهل الإنسانية في ظل الاحتلال: السلاح الخارج عن السيطرة في السويداء يُشكّل تهديداً لبقاء الطائفة الدرزية

أمد/ حين يصمت العالم … وتتكلم غزة ، في زمن تُدار فيه السياسات الدولية بمنطق السوق والاصطفافات المصلحية ، يغدو الصمت على المأساة الفلسطينية – خصوصاً في غزة – تعبيراً صارخاً عن إفلاس أخلاقي عالمي ، تحت غطاء “الحياد” أو “المساعدات الإنسانية”، تتكشف نوايا استعمارية عميقة لا تزال تعبث بمصير شعوبٍ بأكملها ، ومع ذلك ، تُعيد المقاومة تعريف الممكن ، وتُصرّ على أن الكرامة لا تُقايض ، وأن البقاء ليس قدراً بل قرار ، تماماً ، فإن العالم يمرّ بمنعطف تاريخي حاد ، تُعاد فيه صياغة الخرائط الجيوسياسية تحت ظلال النيوليبرالية ، التىّ لم تَعُد مجرّد نظام اقتصاديّ ، بل تحوّلت إلى ثقافة حياتية تفرض إيقاعها على الأفراد والمجتمعات ، هذه النيوليبرالية ، كما يفكّكها ديفيد هارفي ” منظر اجتماعيّ ” ، لا تكتفي بتسليع الإنسان ، بل تُفرغ السياسة من بعدها الأخلاقي ، وتُبرر الإجرام بوصفه “ضرورة أمنية”.

من هنا 👈 ، يصبح مفهوماً كيف صمت العالم على تجويع الفلسطينيين في غزة 🇵🇸 ، بعد أن فشلت آلة الحرب الإسرائيلية في القضاء عليهم ، هذا الصمت لا يمكن تفسيره بمعايير القانون الدولي أو المبادئ الإنسانية ، بل بمنطق الهيمنة الذي يُعيد إنتاج استعمار بوجه جديد – كما وصفه إدوارد سعيد في نقده لـ”الاستشراق” والنفاق الغربي ، وعلى خط موازٍ ، تظهر إسرائيل 🇮🇱 في المشهد الإقليمي ، ليس ككيان يعاني عزلة كما تدّعي ، بل كلاعب نشط في رسم خرائط التفكيك من خلال الأقليات ، فإرسالها مساعدات لدروز سوريا تحت مسمّى “إنساني” ليس بريئاً ، فالمساعدات الإسرائيلية ، مهما تغلفت بالمفردات الأخلاقية ، لا يمكن فصلها عن سجلها المليء بالقتل والطرد والتهجير والإبادة ، وهي أدوات استعمارية كلاسيكية وثّقها باتريك وولف تحت مصطلح “الاستعمار الاستيطاني”.

ما تريده إسرائيل في العمق ، ليس دعم الأقليات لوجه الله ، بل إستخدامها كورقة ضغط لبقاء الكيان موحداً في وجه “جغرافيات عربية” مرشحة للتفكك ، إنها رؤية برنارد لويس المُعلنة : شرق أوسط مفكك ، هش ، تتنازع فيه الأعراق والطوائف ، ويخلو من مشروع وحدوي قد يُعيد تشكيل الموازين ، فالأكراد مثالٌ واضح ، فإسرائيل تعتبر قيام دولة كردية – خاصة إذا كانت سنيّة وذات خلفية تاريخية ودينية – تهديداً استراتيجياً ، فتوحد الأكراد في سوريا والعراق 🇮🇶 وتركيا 🇹🇷 يذكّرهم بصلاح الدين ، ذاك الكردي الذي حرّر القدس 🕌 من الصليبيين ، وعودة مثل هذا النموذج – حتى ولو رمزياً – أمر غير مسموح به في العقل الأمني الصهيوني .

لذلك ، تحرص تل أبيب على إبقاء المنطقة في حالة صراع دائم ، مستخدمة الأقليات وقوداً لمعركة طويلة الأمد ، تُموّلها وتُباركها واشنطن وعواصم أوروبية بحجة “حماية الإستقرار”. والنتيجة : نزاعات لا تنتهي ، وخرائط لا تستقر ، ودم لا يتوقف عن السيلان ، في المقابل ، تُعد غزة اليوم مرآة تعكس عجز العالم الأخلاقي ، الحصار المفروض على القطاع ، منذ أكثر من 17 عاماً ، دمّر البنية التحتية ، وخنق الحياة اليومية ، وجرّع السكان صنوفاً من القهر ، ومع ذلك ، ظلّت المقاومة ، بعنادها وبراعتها ، تثبت في كل جولة أن بقاءها ليس مجرد تكتيك ، بل خيار وجود .

وكل مرة تعلن فيها إسرائيل 🇮🇱 أنها “أنهت المهمة”، تكتشف من جديد أن المقاومة تتجدد ، وتتطور ، وتُفاجئ ، حتى بات الانتحار أو كسر الأطراف خياراً لبعض جنود الإحتلال هرباً من القتال داخل غزة – بحسب تقارير إسرائيلية نفسها ، لقد استشهد قادة ، وسقطت رموز ، لكن الخطوط الخلفية للمقاومة لا تزال نابضة ، وهذه القدرة على التعبئة ، في ظل ظروف قاسية لا تُحتمل ، تقول شيئاً عميقاً : المقاومة ليست جسداً له رأس يمكن قطعُه ، بل روحٌ جماعية متجذرة ، تتجاوز الأشخاص وتُعيد إنتاج ذاتها عند كل إختبار .

في النهاية ، فإن ما يحدث اليوم ليس فقط معركة جغرافيا ، بل معركة سردية ، فالمقاومة تكتب روايتها في وقتٍ يحاول العالم فرض رواية المنتصر ، لكنها ، كما كانت دوماً ، لا تكتب بالحبر ، بل بالدم… وبالحق …

في غمرة التحولات الإقليمية المعقدة ، لا يمكن فصل المشهد السوري عن لعبة التوازنات الدولية ، حتى عندما يتعلق الأمر بالعدو التقليدي ، فتل أبيب ، رغم العداء الظاهري مع المحور الإيراني ، تكيفت مع وجود الميليشيات الشيعية التابعة لطهران في سوريا ، منذ إندلاع الثورة ، لدرجة أنها غضّت الطرف عن تمددهم ، بل وسمحت بمرور الدعم إليهم عبر الحلفاء ، سواء الروس 🇷🇺 أو الأمريكيين 🇺🇸 ، لكن المشهد تغيّر تماماً مع عملية “طوفان الأقصى” ، فقد أُعيد تصنيف تلك الميليشيات فجأة ، وتحولت من مجرد لاعب ثانوي في الصراع إلى “عدو متقدم” في نظر إسرائيل ، يجب استهدافه وتصفيته كأولوية ، وقد حدث ذلك فعلاً ، غير أن الكلفة كانت باهظة ، دُفع ثمنها من دماء السوريين وأمنهم واستقرارهم ، في المقابل ، يعتقد نتنياهو رئيس الحكومة أن المرحلة باتت ناضجة للانتقال من إدارة الأقليات عن بُعد إلى إدارتها بشكل مباشر — نموذج مطبق بالفعل في فلسطين ، واليوم، يلوّح بإمكانية استنساخه جنوب سوريا ، وتحديداً في السويداء ، قلب الطائفة الدرزية .

فإذا كان المجلس العسكري الدرزي قد ظهر لحماية شباب الطائفة من التجنيد في صفوف جيش النظام ، وتحصينهم من أفران الحرب ، فهل يُعقل أن يُزجّ بهم الآن في حرب أهلية مفتوحة ، لا تبقي ولا تذر؟، فالشيخ أبو فهد البلعوس ، الذي كان رمزاً للمقاومة السلمية والكرامة ، دفع حياته ثمناً لمواقفه ، حين أغتاله النظام الأسد بتفجير غادر عام 2015 ، ورغم الصدمة ، تشرذمت الحركة الدرزية بعد غيابه ، لكنّ أبناءه ، بقيادة ليث ، اختاروا طريقاً مختلفاً : طريق الدولة ، والعروبة ، والوطنية ، مؤكدين أنهم أحفاد أولئك الذين رفعوا سيوفهم وهتفوا من أعماق قلوبهم لعبد الناصر 🇪🇬 والوحدة السورية -المصرية ، وكأن الحلم العربي الكبير قد تنفّس الحياة .

في المقابل ، فإن بعض أبناء الطائفة الذين اصطفّوا خلف محور النظام وروسيا وإيران ، وجدوا أنفسهم اليوم في أحضان نتنياهو وإسرائيل ، في مشهد 🎬 يثير الحزن والدهشة معاً ، فهؤلاء مزّقوا صورة سلطان باشا الأطرش ، الزعيم الذي وقف شامخاً بجانب عبد الناصر في خطبته التاريخية ، وأعلنها ثورة من أجل الكرامة والوحدة ، ورغم رفضهم الإنضمام إلى مؤسسات الدولة ، من جيش وأمن ووزارات ، فهم في الوقت نفسه يمنعون الدولة من الدخول إلى السويداء ، مما خلق بيئة خصبة لظهور فصائل مسلحة جديدة ، كـ”شيخ الكرامة”، و”رجال الكرامة”، و”أحرار جبل العرب”، إضافة إلى المجلس العسكري الذي يتلقى دعما من الروس والإيرانيين ، ويُتهم بإشعال فتيل الإشتباكات الأخيرة ، مع مطالبته بحماية دولية وسعيه للتنسيق مع قوات “قسد”.

هكذا ، تتحول السويداء — التىّ كانت أيقونة وطنية وقومية — إلى ساحة لتقاطع المشاريع المتصارعة ، والسؤال الكبير : كيف وصلت هذه المحافظة العريقة إلى لحظة تناجي فيها الإحتلال الإسرائيلي للتدخل ، بعد أن كانت في الصفوف الأولى من معركة العزة العربية ، يوم وقف فدائيو مصر 🇪🇬 في وجه تحالف فرنسا 🇫🇷 وبريطانيا 🇬🇧 وإسرائيل 🇮🇱 ، عام 1956 ، وألحقوا به هزيمة تاريخية ما زالت تُروى في كتب المجد العربي …

من أبرز المفارقات التىّ تشهدها محافظة السويداء في الآونة الأخيرة ، هي ما يمكن وصفه بـ”الكوميديا السوداء”، حيث تتقاطع العادات المحلية المتجذّرة مع تحالفات غير مألوفة ، ففي هذا السياق ، تشير تقارير ميدانية إلى تحالف الشيخ الهجري مع مجموعات تُتهم بالانخراط في شبكات تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة (انظر : تقرير معهد كارنيغي للشرق الأوسط، 2024)، وهذه المجموعات ، بطبيعتها ، تقف موقفاً معادياً لأي حضور فعلي لمؤسسات الدولة داخل المحافظة ، إذ ترى في هذا الحضور تهديداً مباشراً لمصالحها الإقتصادية والأمنية .

اللافت أن هذا التحالف لم يأتِ بمعزل عن تاريخ طويل من التواصل بين شخصيات محلية نافذة وضباط من الجيش الأسد السابق ، ممن كان لهم دور في تسهيل حركة بعض الرموز ، ومنهم الشيخ الهجري ، إلى دول مثل فنزويلا 🇻🇪 ، والتىّ لعبت دوراً مرحلياً في تشكيل توجهاته الفكرية والسياسية (راجع: مركز الدراسات الاستراتيجية السورية، 2023) ، ويُعدّ الهجري من أبرز الأصوات التىّ دعمت نظام الأسد في مراحل سابقة ، كما كان من دعاة التجنيد الإجباري ، ما يطرح تساؤلات حول مدى اتساق مواقفه الحالية مع خطاباته السابقة ، وفي ظل هذا التناقض ، تبدو السويداء مدينة منقسمة على ذاتها ، حيث يغيب الموقف الموحد تجاه الدولة ، على الرغم من أن غالبية السكان تعبّر اليوم عن رغبتها في الإندماج ضمن مؤسسات الدولة الشرعية بقيادة الرئيس الشرع ، كما تشير إلى ذلك إستطلاعات رأي محلية (المركز السوري لبحوث السياسات ، 2025) ، غير أن هذا التمزق الداخلي لا يُضعف فقط النسيج الاجتماعي ، بل يهدد أيضاً السلام الأهلي في المحافظة ، خصوصاً مع تنامي التوترات بين مكونات المجتمع ، مثل العرب الأكراد والدروز ، وهي توترات ذات جذور تاريخية وسياسية معقّدة .

الخطورة لا تكمن فقط في البُعد الداخلي ، بل في إنفتاح الساحة السويدائية على التدخلات الإقليمية والدولية ، عبر استثمار بعض الأطراف الخارجية في الانقسامات الدينية والسياسية ، خاصة عبر بوابة الطائفة الدرزية التىّ تمثل عاملاً جيوسياسياً بالغ الحساسية (انظر: دراسة مركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ، 2024) ، وإذا ما استمرّ هذا التدخل ، فإن المحافظة مرشّحة لأن تتحوّل إلى مسرح مفتوح للصراعات بالوكالة ، الأمر الذي قد يخدم أطرافاً مثل إسرائيل ، التىّ تسعى ، وفقاً لمراقبين ، إلى تفكيك الجغرافيا السورية ومنع أي تهديد محتمل من حدود الجنوب ، كما حدث في عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر ، والتىّ ما تزال تشكل هاجساً أمنياً للدولة العبرية (المصدر : صحيفة هآرتس ، 2025) ، من هذا المنظور ، تعتمد إسرائيل في استراتيجيتها الدفاعية الحديثة على تقنيات الذكاء الاصطناعي ونظم التحكم الفضائي ، ما يمنحها تفوقاً عسكرياً واستخباراتياً نوعياً ، في زمن لم يعد التفوق العسكري يُقاس فقط بعدد الجيوش ، بل بقدرة الدولة على دمج التكنولوجيا في منظومتها القتالية (راجع: تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي، 2024).

إن تحوّل السويداء إلى بؤرة قابلة للاشتعال ليس مجرد إحتمال ، بل هو سيناريو قائم على أرض الواقع ، يتطلب استجابة سياسية حكيمة تعيد اللحمة الوطنية وتمنع الإنزلاق نحو الفوضى …

بعد أكثر من عقد من الصراع ، لا تزال سوريا تقف عند مفترق طرق حاسم ؛ فبينما تفكّك النظام القديم شكلياً ، فإن بنية الدولة العميقة والمؤسسات التىّ شكّلت دعائمه ، لا تزال تتعرض لهزّات بنيوية خطيرة ، تكشف أن التغيير السياسي لم يترافق مع إصلاح مؤسسي جذري ، في الوقت ذاته ، تتحرك القوى الإقليمية والدولية في مسارات متسارعة لتعزيز نفوذها ، بينما تظل دمشق في موقع رد الفعل لا الفعل .

وتشير التطورات الأخيرة إلى أن المؤسسات الرسمية في سوريا لم تتمكن من تجاوز الكوابيس التىّ لاحقتها منذ إندلاع الأزمة ، فعلى الرغم من سقوط نظام الأسد في صورته القديمة ، فإن روح الانفصالية ، والشلل المؤسساتي ، وإنعدام الثقة بين الدولة والمجتمع ، لا تزال قائمة ، غير أن ما يجب التوقف عنده هو أن الشعب السوري ، رغم حجم التضحيات ، منح الدولة فرصة تاريخية لإعادة إنتاج نفسها من خلال رؤية وطنية شاملة ، تستند إلى الدماء التىّ سالت في سبيل التغيير ، وترتكز على عقد إجتماعي جديد يُعيد بناء الثقة ويُرسّخ مبادئ العدالة والمواطنة ، وعلى الصعيد الإقليمي ، تبرز تحديات كبرى تُضعف قدرة الدولة السورية على التعافي ، فإسرائيل ، على سبيل المثال ، كثّفت من غاراتها الجوية خلال الأشهر الأخيرة ، مستهدفة أكثر من 150 موقعاً استراتيجياً في الضربة الأخيرة داخل سوريا ، بما فيها القصر الجمهوري وهيئة الأركان ، في مؤشر واضح على هشاشة الردع السوري وتراجع مكانة البلاد كقوة إقليمية فاعلة ، فتل ابيب ، من جهتها ، تحاول أخذ مكانة ايران في الساحة السورية من خلال الدروز أو قصد ، لكن ليس بالضرورة بما يخدم إستقرار سوريا كدولة ذات سيادة ، بل في إطار صراع النفوذ مع الغرب وإيران .

في المقابل ، تسجّل تركيا 🇹🇷 خطوات نوعية على صعيد تطوير قدراتها الدفاعية 🚀 ، متجاوزة مرحلة تصنيع المسيّرات الهجومية إلى إطلاق منظومات دفاعية متقدمة ، فقد أعلنت مؤخراً عن منظومة الدفاع الجوي الجديدة “Tuwek”، المصممة خصيصاً للتعامل مع تهديد المسيّرات ، خصوصاً الصغيرة والمتعددة (الأسراب) ، ويمثل هذا النظام طفرة تقنية على المستوى الدولي ، بفضل إستخدامه رادارات ذكية تتيح له الاستجابة الدقيقة والسريعة ، مما يُضفي على المعركة الجوية بُعداً جديداً ويضع منافسي أنقرة في موقف صعب أمام التحديات التقنية .

إن السياق الإقليمي المتسارع يفرض على صانع القرار السوري التحرك العاجل نحو مشروع وطني متكامل يعيد الأعتبار إلى الدولة ، لا بوصفها سلطة قمعية ، بل كجهاز مدنيّ يخدم الشعب ويوفر له مقوّمات الحياة الكريمة ، ومع وجود قوى تتسابق لبسط نفوذها وفرض وقائع جديدة ، فإن التأخر في إعادة بناء مؤسسات الدولة ، وتعزيز القدرة الدفاعية ، والانفتاح على الداخل والخارج برؤية واقعية ، قد يُفقد سوريا ما تبقى من موقعها الإستراتيجي .

لقد دفع السوريون الثمن الأغلى ، والفرصة لا تزال قائمة ، لكن الزمن لا ينتظر ، ومن لا يتقدّم في هذا الإقليم المتغيّر ، ينتهي به المطاف في هامش التاريخ … والسلام