بين سياسة التجويع وتواطؤ الدول… شعب يُقْتَل في صمت

أمد/ في زاويةٍ من هذا العالم المُرهق، تقف غزة عاريةً من كل شيء إلا الكرامة. لا طعام، لا ماء، لا دواء، ولا حتى لحظة صمت تليق بالشهداء. كل ما تملكه هذه المدينة الصغيرة المحاصرة هو القدرة على الصمود، ولو على الرمق الأخير. شوارعها مكسوة بالغبار والركام، وأصوات الأطفال فيها باتت همسًا حزينًا يتسلل من تحت الأنقاض. ومع ذلك، يشاهد العالم. يشاهد دون أن يرتعش. يشاهد دون أن يصرخ.
يشاهد بينما تُسرق أرغفة الخبز من أفواه الجوعى، وتُنتزع الأمهات من حضن الحياة، ويُصاغ الموت كروتين يومي. الإعلام الغربي يوثّق، لكنه لا يتحرك. السياسيون يدينون، لكنهم لا يمنعون.
أما الهيئات الدولية، فقد ابتلعت لغتها في بيروقراطية باردة، تُقايض الدم بالبيانات.
غزة، تلك المدينة التي يأكل الحصار فيها أحلام الأطفال قبل أن يأكل خبزهم، تسكنها أرواح تنتظر لقمةً لا تأتي، وصوت طائرات لا يغيب. الجوع هناك ليس مجرد ألم في المعدة، بل قصة صمود تُكتب على أبوابٍ مهدّمة وموائد خاوية.
في غزة، يتيم يضع حجارة في قدرٍ فارغ؛ ليس ليطهو، بل ليقنع شقيقه أن العشاء قادم. فكل وجبة تُقصف، وكل رغيف يُطارد، وكل نبض يصرخ: هل من إنصافٍ لهذا الوجع؟
بينما تغرق غزة في أسوأ كارثة إنسانية يشهدها العصر الحديث، يقف العالم مكتوف الأيدي، مكتفيًا بالمشاهدة، عاجزًا أو متواطئًا. عشرون شهرا تقربيا من القصف والحصار الخانق، باتت هذه المدينة الساحلية المنكوبة رمزًا لصمود شعب يُحاصر بالجوع، وتُدفن كرامته تحت أنقاض الصمت الدولي. لا طحين، لا ماء، لا دواء، ولا حتى شفقة؛ فقط رمادٌ يتصاعد من ركام البيوت، ودموعٌ جافة في عيون لا تجد مكانًا تبكي فيه. الإعلام ينقل الصور، لكن دون صدى حقيقي، والسياسيون يصدرون البيانات، دون فعل يُنقذ الأرواح.
ما يحدث في غزة ليس فقط عدوانًا عسكريًا، بل سياسة قتل بطيء عبر التجويع والإذلال، تُمارس على مرأى من العالم. الأطفال يموتون في الحضانات لانقطاع الكهرباء، العائلات تتقاسم بقايا الطعام، والجرحى يُتركون لينزفوا حتى الموت في مستشفيات مدمّرة أو فارغة من الدواء.
وفي الوقت ذاته، تستمر القوى الكبرى في دعم الاحتلال عسكريًا أو سياسيًا، متذرّعة بـ”حق الدفاع عن النفس”، متجاهلة أن غزة بأكملها باتت بلا نفس. أما المنظمات الدولية، فقد استبدلت لغة الطوارئ بلغة التقارير الروتينية، حتى بات الصمت خطابًا موازٍ للرصاصة، وجزءًا من آلة الحصار.
وفي ظل هذا الظلام، يُطرح السؤال الأخلاقي الأكبر: أين الضمير العالمي؟ وأين دور الإعلام الحر، والمجتمع الدولي، والمثقفين، والمؤسسات الإنسانية؟ لم تعد غزة بحاجة إلى تغريدات تضامن، ولا إلى شجب باهت، بل إلى وقفة ضمير، إلى كسر الصمت، إلى تحرّك فعلي يضع حدًا لهذه المأساة المستمرة.
إن الجوع في غزة لا يُشبع بالبيانات، ولا تبرّره المعادلات الجيوسياسية. فكل لحظة تأخير في إنقاذ هذا الشعب، تُسجّل جريمة في سجلّ الإنسانية، وكل من يصمت، يتحوّل إلى شاهد زور في مجزرة مكشوفة. غزة لا تموت فقط من القصف… بل من صمتٍ عالميٍ يأكلها يومًا بعد يوم.