إيقاف النزاع أكثر أهمية من مصير حماس

إيقاف النزاع أكثر أهمية من مصير حماس

أمد/ لم تعد الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار في غزة تعبيرًا عن موقف سياسي موحد أو انحياز لطرف على حساب آخر. إنها تعكس، في جوهرها، صرخة حياة تبحث عن لحظة هدنة تتيح للمدنيين أن يتنفسوا خارج إطار الموت. لقد تهشمت كل الصور التي تعوّد سكان القطاع على تلوين ملامحها بالأمل، وتحولت الحياة اليومية إلى سلسلة من النجاة المؤقتة لا أكثر.

في شوارع غزة لا أحد يكترث لتفاصيل المفاوضات، ولا أحد يملك ترف الحديث عن مستقبل حماس السياسي أو عن رؤيتها للمرحلة المقبلة. فالغزيون باتوا يدركون، بعد كل ما حدث، أن ما يُطبخ على موائد السياسة الإقليمية والدولية لا يأتيهم سوى بمزيد من الركام. ومن السخرية أن النقاشات حول مصير “حكم” حماس في القطاع أو تفاصيل الانسحاب الإسرائيلي أصبحت ترفًا سياسيًا أمام الانهيار الكامل لكل مقومات البقاء.

الاحتلال من جهته لا يخفي طموحه في البقاء داخل غزة، وإن بصيغ متبدلة، تحت ذريعة حماية أمنه القومي. وهي ذريعة باتت كافية لشرعنة بناء قواعد عسكرية وتمديد المنطقة العازلة والاحتفاظ بحق التدخل عند الحاجة. ما يعزز هذا الطموح هو الانقسام في الطرح الفلسطيني ذاته، والتآكل الكبير في شرعية حماس، ليس فقط أمام الخصوم بل أمام جمهورها التقليدي.

منذ لحظة اندلاع “طوفان الأقصى” بدا أن حماس اختارت القفز في المجهول دون أن تحسب ما بعد اللحظة الأولى من النشوة الإعلامية. المغامرة التي أطلقتها باندفاع مفرط لم تكن مدروسة من حيث النتائج، بل مثقلة بحسابات إقليمية مرتبطة بمحور الممانعة أكثر من ارتباطها بالواقع المحلي المتأزم. لقد قايضت الحركة مصير المدنيين في غزة بفرصة سياسية محفوفة بالمخاطر، وفشلت حتى في الدفاع عن هذه المقايضة أمام جمهورها.

تعثر المفاوضات لا يعني سوى أيام إضافية من الدمار والقتل والجوع. وهو ما يُفترض أن يفرض مراجعة عاجلة لأولويات التفاوض. فالتوصل إلى هدنة مؤقتة، وإن بدت غير كافية، قد يفتح الباب أمام تسوية شاملة تُبقي على فرصة تفادي خطر الضم وتسمح بإعادة ترتيب المشهد السياسي على قاعدة الممكن لا على أوهام الانتصار الرمزي. وليس أمام حماس، في ظل هذا الوضع الهش، ترف المناورة أو الاستقواء بالشعارات. فالخيارات تضيق والواقع لا ينتظر البيانات.

الإصرار على ربط وقف إطلاق النار بملف الانسحاب الكامل يُقزّم المأساة ويجعلها رهينة لعبة شروط لا تهم الغزيين في شيء. من الطبيعي أن يُطرح هذا الملف في وقت لاحق كجزء من الترتيبات النهائية، ولكن الإصرار على تقديمه كشرط مسبق لا يفيد إلا في تمديد زمن الموت وزيادة الخسائر البشرية التي لا تجد من يحصيها خارج عدسات الإعلام.

الواقع أن الغزيين باتوا يرون في حماس جزءًا من المأزق لا من الحل. لقد تعبت غزة من المواجهات التي تُخاض بالوكالة ومن الخطابات التي تُصاغ في طهران وتُلقى في المساجد. تعبت من حكومات الظل، ومن مشاريع المقاومة التي لا تُنتج سوى مزيد من القبور.

في النهاية ستبقى غزة ضحية ازدواجية المعايير: مرة باعتبارها ورقة تفاوض إقليمية، ومرة باعتبارها حقل اختبار لردود الأفعال. ولكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن سكان غزة لا يريدون أكثر من حياة عادية، خالية من الخنادق، ومن حسابات الزعامة، ومن طموحات احتلال يتغذى على فشل خصومه.