بين الوجود الظاهري والراتب الثابت

أمد/ اختزلت السلطة القضية الفلسطينية بالحفاظ على استمرارية الوظائف وتدفق المساعدات المالية الأجنبية والعربية لتأمين الرواتب، ضمن منظومة زبائنية مستفيدة من استمرار الوضع الكارثي لسلطة عاجزة عن حماية أملاك وحياة مواطنيها، ومنع التوغل الاستيطاني وسرقة الأراضي، وتدمير البيوت، وتقطيع أوصال الضفة الغربية بأكثر من ألف بوابة وحاجز عسكري… إلخ.
أصبحت مؤسساتنا “الحكومية” حيث تبدأ الساعة بثبات ولا تنتهي بيقظة، حاضنة لنوع خاص من الوظائف لا يدرجها ديوان الموظفين، ولا تدرس في الجامعات، لكنها موجودة ومحمية أكثر من كنوز كل العصور. إنها “وظيفة القاعد” بالمصطلح الفلسطيني… وظيفة لا تحتاج إلى مهارات، ولا إلى شغف، ولا إلى إنجاز، بل إلى حضور جسدي، وجهوزية عالية لتصوير كوب القهوة على الفيسبوك قبل التاسعة صباحا، والانضمام إلى جيش الموظفين العاطلين عن العمل بتسحيجات تملق ونفاق للمسؤولين، للحفاظ على استمرارية الوظيفة والانتماء السياسي.
ومن يدخل بعض الدوائر الحكومية في رام الله، وأيضا في البلديات والمجالس المحلية، يلاحظ مشهدا يتكرر: مكاتب مملوءة بموظفين، لكن العمل لا ينجز، والورق لا يتحرك، والناس في الانتظار.
لماذا؟ لأن كثيرا من هذه الوظائف تم توزيعها لا على أساس الكفاءة، بل على قاعدة “ولع هويتك السياسية أو الاجتماعية”.
وهكذا أصبحت الوظيفة “الحكومية” أداة تهدئة سياسية واجتماعية، وليست وسيلة لتحريك عجلة النهضة والصمود في ظل الاحتلال وممارساته. ومن عجائب وظيفة “قاعد” أن راتبها غالبا ما يكون مضمونا شهريا، حتى لو لم يكن هناك أي إنتاج فعلي يبرر ذلك. الموظف يشعر أنه يؤدي واجبه بمجرد الذهاب إلى المكتب، لا بإنجاز المهمة.
ومع ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة الرواتب، تتحول هذه الفئة إلى ما يشبه “بطالة مقنعة” تتلقى أجورا رمزية… لكنها لا تغني ولا تسمن، ولا تنتج شيئا مهما لتطوير المؤسسات.
والمفارقة أن كثيرًا من “موظفي الفشل الوظيفي” يشعرون أنهم ضحايا النظام من خلال أسئلة مظلومية تتكرر كسؤال: هل نحصل على زيادات كافية؟ هل السلطة تهتم بمستقبلنا؟ وبنفس الوقت، لا أحد يسأل: ما الذي قدمه الموظف “القاعد” فعليا في المؤسسات التي يعمل بها منذ سنوات، غير توقيع الحضور والانصراف؟
وفي بعض الدوائر، هناك موظفون تقاعدوا بعد 25 عاما دون أن ينجزوا مشروعا واحدا أو يتركوا أثرا مؤسسيا. والمضحك أن مقاعدهم تنتقل لأبنائهم بحجة “الوفاء للخدمة”! أي خدمة؟ لا أحد يعرف، ولا أحد يحاسب… لأن لا أحد يعمل كما هو مطلوب.
وظيفة “قاعد” ليست مشكلة فرد، بل أزمة بنيوية في نظام التوظيف الفلسطيني. فالنظام يكافئ الولاء بدلا من الكفاءة، ويغض الطرف عن غياب الإنتاج مقابل المحافظة على ما يسمى “التوازنات”.
وحتى تتغير قواعد اللعبة، ستبقى المؤسسات تعج بـ”الموظفين دون وظيفة”، ومعهم تبقى فلسطين تدفع الثمن مالا ووقتا وسمعة.
وفي السياق الفلسطيني، هذا الطرح يحمل أبعادا مهمة تتعلق بالبطالة، وسوق العمل المختل، والدور المغيب للتعليم. في مرحلة الثانوية العامة نقول: “ادرس لتضمن مستقبلك”، وفي الجامعة: “شد حيلك حتى تتوظف”، وبعد التخرج: “ابحث… وانتظر… واصبر…”
سنوات طويلة من الأوهام، تنتج جيلا مثقفا لكن محبطا، متعلما لكنه معطل. والسبب؟ سوق عمل لا يعترف إلا بالواسطة، والتمويل، والانتماء السياسي. ووظيفة “قاعد” أصبحت ضحية منظومة زبائنية فاسدة.
وفي ظل هذا الوضع المزري، لا يجد كثيرون حلولا سوى التفكير بالعمل الحر، أو الهروب والهجرة إلى أوروبا ودول الخليج وتركيا.
وهكذا نشأت ثقافة الفشل القسري… مجتمع لا يفشل لأنه لا يريد، بل لأنه يمنع من النجاح.
بالتأكيد نستطيع معالجة هذا الفشل، لكنه يتطلب إرادة سياسية، وعيا مجتمعيا، وقطيعة مع ثقافة “الوظيفة مقابل الولاء”.
وإلا سنبقى ننتج وظيفة “قاعد”، وبنفس الوقت نطالب أصحابها بأن يكونوا ناجحين.