النقد خارج الصورة… ووسطاء العمولة يتحكمون في غزة

أمد/ لم تعد الحرب تُقاس فقط بعدد الغارات أو حجم الدمار، بل باتت تُقاس أيضًا بعدد الأوراق النقدية المهترئة في جيوب الناس، وبنسبة ما يتبقى من الراتب بعد أن يمر عبر “تجار العمولة”. فمع استمرار العدوان منذ ما يقارب العامين، أُغلقت البنوك، وتوقفت السيولة النقدية عن التدفق، وانهارت الحياة الاقتصادية في مشهد يعكس انهيارًا مركبًا: اقتصاديًا، إنسانيًا، وأخلاقيًا.
منذ بداية العدوان، أُجبرت البنوك في غزة على إغلاق أبوابها، إما بسبب الاستهداف المباشر أو لانعدام الأمن.
ومع غياب أي بدائل مصرفية حقيقية، أصبح الموظف أمام خيارين أحلاهما مر: إما أن يحتفظ براتب إلكتروني لا يمكن صرفه، أو أن يلجأ إلى تجار العمولة الذين يقتطعون ما يصل إلى 54% من الراتب مقابل توفير السيولة.
هؤلاء التجار، الذين يعملون خارج أي إطار قانوني أو رقابي، يعرضون على الموظف تحويل راتبه من حسابه البنكي إلى حساباتهم الشخصية، ثم منحه نصف المبلغ نقدًا. هذه الظاهرة، التي باتت منتشرة بشكل واسع، تمثل شكلًا من أشكال الابتزاز المالي، حيث يُجبر المواطن على التنازل عن نصف دخله ليتمكن من شراء الخبز أو الدواء.
الأزمة النقدية لم تقتصر على الموظفين فقط، بل امتدت لتصيب كل مفاصل الاقتصاد. فقد انهارت القدرة الشرائية للمواطنين، وتوقفت عجلة البيع والشراء بسبب نقص الفئات النقدية الصغيرة، وتفشت ظاهرة الابتزاز المالي في ظل غياب الرقابة، وتآكلت الثقة في النظام المصرفي بشكل غير مسبوق. الأسواق باتت شبه مشلولة، والتجار عاجزون عن تصريف بضائعهم، والمواطنون يواجهون صعوبة حتى في شراء احتياجاتهم اليومية.
في خضم هذه الأزمة، يقف المواطن مذهولًا، عاجزًا عن فهم كيف تُترك غزة بهذا الشكل دون تدخل حقيقي. أما سلطة النقد الفلسطينية، فاقتصرت تحركاتها على بيانات عامة، دون أي إجراءات ملموسة على الأرض. لا خطة طوارئ، لا ضخ للسيولة، ولا ملاحقة لتجار العمولة.
وكأن غزة خارج نطاق مسؤوليتها. هذا الغياب يطرح تساؤلات مشروعة حول دورها، وقدرتها على حماية النظام المالي في أوقات الأزمات، بل ويثير الشكوك حول ما إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية لإنقاذ ما تبقى من الاقتصاد الغزي.
لإنقاذ ما تبقى من الكرامة الاقتصادية، هناك خطوات عاجلة يجب اتخاذها دون تأخير. أولها ضخ السيولة النقدية إلى غزة عبر قنوات آمنة ومنظمة، تضمن وصول الأموال إلى مستحقيها دون استغلال.
ثانيًا، ملاحقة تجار العمولة قانونيًا، ووقف استغلالهم لحاجة الناس، من خلال فرض رقابة صارمة على التحويلات ومحاسبة المخالفين.
ثالثًا، تفعيل أدوات الدفع الإلكتروني بشكل آمن وواسع، لتقليل الاعتماد على النقد الورقي وتسهيل المعاملات اليومية.
رابعًا، إصدار تعليمات ملزمة بقبول العملة المهترئة مؤقتًا، لتسهيل حركة السوق وتخفيف الضغط على المواطنين. وأخيرًا، تشكيل لجنة رقابة مالية مستقلة تضم خبراء واقتصاديين وممثلين عن المجتمع المدني، لمتابعة الأزمة واقتراح حلول واقعية بعيدًا عن البيروقراطية.
يقول أحد الموظفين: “أنتظر راتبي شهرًا كاملًا، ثم أذهب لأعطي نصفه لتاجر عمولة. لا بنك، لا دولة، لا حماية.
نحن وحدنا في هذا الجحيم.” هذه الكلمات تختصر مأساة آلاف العائلات التي وجدت نفسها بين مطرقة العدوان وسندان الانهيار المالي.
في غزة، لا تُقاس الكارثة فقط بعدد الشهداء، بل أيضًا بعدد الجيوب الفارغة، والرواتب المنهوبة، والقلوب التي تنتظر عدالة اقتصادية لا تأتي. فهل تتحرك سلطة النقد قبل أن يتحول الاقتصاد إلى أنقاض، كما تحولت البيوت من قبل؟