الانسحاب في اللحظات الأخيرة

أمد/ على مدى العقدين الأخيرين ومسألة تجنيد شباب المدارس والمعاهد الدينية تثير جدلا وسجالا واسعا في الساحة الحزبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الإسرائيلية. وشكلت عقدة التجنيد من عدمه معضلة حقيقية داخل المجتمع الإسرائيلي، حتى ان كبير الحاخامات الشرقيين (السفارديم) في إسرائيل يتسحاق يوسف يوم السبت 9اذار / مارس 2024، هدد قائلا “إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش فسنسافر جميعا الى خارج البلاد، نشتري التذاكر ونذهب.” حسب القناة 12 العبرية.
وفي ظل أطول حرب تخوضها إسرائيل على مدى عامين تقريبا في قطاع غزة، ومع تفاقم الازمات متعددة الجوانب في البنائين الفوقي والتحتي الإسرائيلي، وبسبب الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي بغزة، وحاجة المؤسسة العسكرية للمزيد من المجندين، ورغبة الحكومة بمواصلة الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني لتحقيق “النصر الكامل” الذي لم ولن يتحقق، وتبني غالبية المجتمع الإسرائيلي رفض اعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، على أرضية تقاسم أعباء الدفاع، باتت مسألة تجنيدهم قضية مركزية في سياسة اغلب الأحزاب الإسرائيلية، وتطالب بضرورة سن قانون عادل للخدمة الإلزامية المدنية والعسكرية تشمل الشباب في سن التجنيد كافة، بغض النظر عن خلفيتهم الدينية او السياسية.
غير ان الأحزاب الحريدية، لأسباب عدة، تطالب بأن تكون دراسة التوراة نوعا من الخدمة العامة، لأنها حافظت على مدى قرون على المبادئ والقيم اليهودية. لا بل أن بعضهم يعتقد عن قناعة راسخة، أن الدراسة الدينية هي التي تحمي إسرائيل حتى في ظل الحروب، أكثر من المجالات الأخرى مثل الفنون والمشاركة في القتال.
وقد أكد استطلاع نشره مركز دراسات الامن القومي الى ان الجيش الإسرائيلي يواجه واحدة من أخطر الازمات في تاريخه، في ظل الاستنزاف والقتال على جبهات متعددة، خاصة على جبهة غزة. وبالتلازم أشارت نتائج أحد استطلاعات الرأي بشأن التجنيد، الى أن 71% من الإسرائيليين يعتقدون أن اعفاء معظم الحريديم من الخدمة سيلحق ضررا كبيرا بدوافع الخدمة، وجاء في الاستطلاع، إن 41% من العائلات الإسرائيلية ستوصي ابناءها بعدم الالتحاق بالخدمة العسكرية، إذا سُن قانون يعفي الحريديم من الخدمة، وإن 45% قالوا إنه إذا أقر مثل هذا القانون، فأنهم سيشجعون أبناءهم على التجنيد في الجيش، لكن ليس في المهام القتالية. أي ان الازمة ستتفاقم أكثر فأكثر في الجيش. وهو ما يعكس مضاعفة عملية الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي، ولا تنحصر المسألة في عملية التجنيد، بل ان لها ارتدادات على الجانب الاقتصادي، حيث يرى خبراء اقتصاديون، أن تجنيد الحريديم وإشراكهم في الحياة الاقتصادية يوفران للاقتصاد الإسرائيلي ما لا يقل عن 100 مليار شيكل سنويا، وحسب التقديرات الرسمية فإن قرار تجنيد الحريديم يطال نحو 80 الفا من الشباب تسري عليهم قواعد التجنيد الالزامي أو الخدمة الاحتياطية، وهذا رقم كبير بالنسبة للدولة الإسرائيلية.
وحسما للجدل والسجال حدثت تطورات هامة نسبيا الأسبوع الماضي، بعدما كرت مسبحة الانسحابات المتدحرجة للأحزاب الدينية الحريدية من حكومة بنيامين نتنياهو، نتاج عدم وفاء رئيس الحكومة بوعوده لها بإيجاد حل وسطي يحول دون تجنيد شباب المعاهد الدينية، وكان حزب “ديغيل هتوراه” أحد جناحي حزب “يهدوت هتوراه”، أول من قرر الاستقالة من الحكومة، وأوضح الحزب ان القرار جاء بعد مشاورات مع كبار الحاخامات الذين يشكلون المرجعية الدينية والسياسية للحزب. وجاء في بيان الحزب “بعد الانتهاكات المتكررة من قبل الحكومة لتعهداتها بشأن الحفاظ على مكانة طلاب المدارس الدينية الذين يكرسون وقتهم بالكامل للدراسة المقدسة، نعلن انسحاب أعضاء الكنيست التابعين لنا من الائتلاف الحكومي.” وفي وقت متأخر من ليلة الاثنين 14 تموز / يوليو الحالي، لحق جناح حزب يهدوت هتوراه حليفه حزب ديغل هتوراه وانسحب من الحكومة، ولم يتأخر حزب شاس عن اللحاق بركبهم يوم الأربعاء 16 يوليو، أي بعد يومين بسبب عجز حكومة نتنياهو عن تمرير قانون يعفي بشكل مقبول شرائح واسعة من طلاب المدارس الدينية الحريدية من الخدمة العسكرية.
وكانت الأحزاب الحريدية ورئيس لجنة الخارجية والامن في الكنيست الليكودي يولي ادلشتاين قد تبادلوا الاتهامات بشأن الاتفاق الذي يدور الحديث حوله منذ شهور، وفي بيان ادلى به ادلشتاين بعد اعلان الانسحاب من الائتلاف، انهم ممثلي الكتل الحريدية في الكنيست انتهكوا الاتفاقات التي تم التوصل اليها مع رئيس الحكومة الائتلافية. وردا عليه شنت الأحزاب الحريدية هجوما مشتركا، وجاء في بيانهم “يولي ادلشتاين يلعب لعبة سياسية على حساب الخدمة. مستغلا بسخرية معاناة العائلات، ومُسقطا حكومة اليمين بيديه. على ممثلي الليكود واليمين التنديد به على ما نشره.”
مما لا شك فيه، ان حكومة نتنياهو فقدت الأغلبية البرلمانية، ولم تعد تمثل سوى 50 عضو كنيست بعد انسحاب حزب شاس، لكن انسحاب الأحزاب الدينية جاء منسجما مع رغبة نتنياهو عشية العطلة الصيفية، التي ستبدأ في 27 تموز / يوليو الحالي، التي تستمر لمدة 12 أسبوعا طوال، تمنح رئيس الحكومة الفرصة لإيجاد مخرج للازمة المستعصية. كما انها أبقت غطاءها الحزبي وفي الكنيست للحكومة، وقالت لن نصوت مع “اليسار” على حل الحكومة أو الذهاب لانتخابات مبكرة، وبالتالي فإن انسحابها جاء في الوقت الضائع، أضف الى انها مازالت وفية لالتزاماتها تجاه حكومة اليمين التي يقودها الرجل القوي في إسرائيل، ولكن قد يخذل الحاوي نتنياهو حلفائه من قوى اليمين ويذهب لانتخابات مبكرة، إذا ما ضمن الفوز في الانتخابات وتامين ائتلاف جديد يضمن له البقاء على سدة الحكم. وقادم الأيام كفيل بالإجابة على أسئلة الانسحابات وتداعياتها القادمة.