المجاعة تتزايد.. نساء ورجال من غزة يتظاهرون للحصول على الطعام لذويهم.. وأطفال يبكون من الجوع.

أمد/ شهد فطاع غزة ، أمس وأمس الأول، انهياراً غير مسبوق في المعيشة وتدهور الخدمات؛ ما أظهر أشكالاً متعددة للمجاعة التي هدت أسواراً حصينة لخيام ولبيوت متعففة؛ فوصلت بالفعل إلى غالبية الأسر في قلب قطاع غزة.
ارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية الأساسية وخصوصاً الدقيق ، يماثله تصاعد مستمر لأجرة المواصلات بين مدن القطاع، بالتزامن مع أزمة مشتقات نفطية، وانقطاع لمرتبات الموظفين، وغياب تام للحكومة؛ ما خلق واقعاً من الفوضى، وأبرز أرضية خصبة لجشع التجار والمضاربين بالعملة وأرباب السوق السوداء المتاجرين بكل ما يتعلق بقوت المواطن ومعيشته.
وضع أدخل مدينة غزة وبقية المحافظات في أتون مجاعة حقيقية كشفها حال المواطنين في المدينة، بمختلف شرائحهم؛ إذ أُجبر كثيرٌ من المتعففين على الخروج إلى الشوارع والتخفّي في الأزقة لتصيد مارّين والهمس إليهم لطلب المساعدة، بوجوه تبدو وكأن ما يكسوها من لحم سيتساقط على الأرض حياء وخجلاً، وبنفوس منكسرة متعففة عاجزة، ذي فاقة وحاجة قلّت حيلتها وجار عليها الزمن.
فتيات شابات شوهدن في أزقة بحي الرمال والميناء والمواصي والوسطي يتسولن خلسة وبأساليب تشي بأن العفيف في غزة قد ضاق به الحال، وداهمت المجاعة أطفاله لتجبره على ما لم يكن يتوقعه.
نساء ذوات جمال يحملن أطفالاً كالمصابيح شوهدن -ولا زلن- يوقفن في “أركان” وممرات وأزقة بشوارع غزة، تترقب الواحدة منهن عابراً كي تستوقفه وتحدثه خلسة بحالها وحاجتها وأطفالها أو أمها وأبيها لرغيف خبز أو لشراء نصف كيلو دقيق أو لوجبة غداء أو عشاء، بعضهن قلن صراحة أن بيوتهن وخيمهن لم تدخلها وجبة ولم يُطبخ فيها طعام، وساكنوها يأكلون نصف وجبة في اليوم وآخرون لم يأكلوا منذ أيام.
شباب وأطفال ومسنون ونساء وفتيات، سيماهم في وجوههم من التعفف، أخرجهم الجوع إلى شوارع غزة للبحث عما يُسد به الرمق، وجوه بيضاء جميلة منكسرة يرهقها الحياء والذل خرجت للتسول ومد اليد بعد أن كان التسول في غزة أمراً أو “مهنة” تقتصر على فئة معينة من المهمشين وذوي البشرة السوداء، أطفالا ومشردين ونساء، معروفين بطرقهم للتسول والحصول على المال بإلحاح وملاحقة للمارين.. من الوهلة الأولى سيدرك المار في شوارع غزة والجنوب وكثير من مناطق القطاع أن الأمر بلغ مبلغاً من الانهيار المعيشي، وأن المجاعة واقعة ولم تعد مجرد تهويل أو مزايدة لصالح طرف سياسي ضد آخر.
جماعات وفرادا من الفتيات الشابات، يبدو أنهن عاملات بالجنوب او ذويهم بالجنوب، شوهدن أمس ظهراً في شارع الرشيد علي شاطئ البحر الرابط بين مدينة غزة وجنوبها ماشيات على الأقدام، للوصول إلى منازلهن في الجنوب او العكس أو لذويهم هناك، تلفح وجوههن الشمس، بعد الارتفاع الجنوني لأجرة المواصلات بين المدينتين، إذ وصلت أجرة الراكب من غزة إلى النويري 20 شيقل ذهاباً ومثلها إياباً، ويمكن القياس على ذلك تكلفة الأجرة بين بقية المدن الوسطي والمواصي ومناطق مدينة غزة.
شبان من طلاب المدارس يرتصون كل يوم أكواماً في الجولات، لا سيما المفترقات الرئيسة، بانتظار “مواصلة” ليصلوا إلى مدارسهم المؤقتة او مراكزهم التعليمية صباحاً ويعودون إلى منازلهم او خيمهم ظهراً، وقلما يجد البعض منهم عرباه دواب أو سيارة نقل أو حتى سيارات القمامة ليقضي مشواره ويصل منزله أو مركزة التعليمي. وهكذا تستمر المعاناة كل يوم، وربما يصل البعص منزله او خيمته ولم يجد وجبة أكل كافية أو رغيف خبز، ناهيك عن مستلزمات الدراسة من ملازم وكتب ومراجع ودروس خصوصية واجره مراكز .
معلمون ومعلمات بنقاط أو مدارس تعليمية أساسية، أكدوا في إفادات خاصة، أن طلاباً في الصفوف الدنيا يبكون في الطابور الصباحي وفي قاعات الدراسة المصنوعة من الخيام من الجوع، وعند إحالتهم للمشرف الاجتماعي أو سؤالهم يقولون إنهم جياع وغير قادرين على البقاء بالمدرسة، وصرح بعض الطلاب لمعلماتهم بأنهم يأتون المدرسة صباحاً دون تناول وجبة الفطور، وأنهم ناموا الليلة الماضية هم وعائلاتهم دون عشاء، بعد أن كان هؤلاء الطلاب يأتون المدرسة، خلال فترات ماضية، ومعهم وجبات خاصة من “سندوتشات” وعصائر لتناولها وقت الاستراحة بين الحصص، حسب ما ذكرته بالنص إحدى المعلمات.
الجوع والفقر هد أسوار الموظفين، على وجه التحديد، فدخل منازلهم وخيامهم وفتلك بأطفال الكثير منهم، ودفع ببعضهم إلى هاوية مد اليد. يقول شاهد عيان: “كنت ماراً في جولة بمنطقة الصحابة ، وفي أثناء تجاوزي ممراً من بين سيارتين متوقفتين استوقفني شاب يبدو أنه ثلاثيني يرتدي روباً طبياً ، أشار إليّ باستحياء وحدثني قائلاً، “العفو منك ياخي أنا مروح من الدوام إلى خيمتي علي الميناء وما عندي أجرة المواصلات، الراتب اتاخر ومافي سيولة والحال يعلم به الله”.
ويصف شاهد العيان حال الرجل قائلاً، “نطق كلماته بألم وحسرة والعبرات تبدو في تقاسيم وجهه وحشرجة صوته، قالها من حاجة. استوقفني وطلب مني مساعدته ليصل إلى أطفاله مجبراً منكسراً، وهذا ما تيقنته وتفهمته”.. هنا ندرك أننا في مجاعة حقيقة قد تتوسع رقعتها وتقتحم حرمات كل الخيام والبيوت مهما كانت تحصيناتها ومها كثُر ما لديها من مؤن ومدخرات”.
عزيز و أنفس وعزيزات ممن أخرجتهم المجاعة وأسدل الفقر ستار عفتهم يُشاهدون، هذه الأيام، وهم يتجولون في الأحياء السكنية ليطرقوا أبواب الخيام او المنازل ويطلبوا من ساكنيها مساعدات لشراء علاجات ومستلزمات لمرضى لديهم باقين في الخيمة او المنزل عجزوا عن نقلهم إلى المستشفيات أو شراء أدوية لهم، فاضطروا إلى إقعادهم داخل الخيام او البيوت بانتظار الفرج أو الموت.
غزة المدينة المعطاءة التي أكل من خيراتها كل قريب وغريب، واحتضنت كل مشرد وانصفت كل مظلوم.. غزة التي بفضلها وبفضل ثرواتها بنى كثير من “الهوامير” والمسؤولون عروشهم، ومن إيراداتها صنعوا أنفسهم وشيدوا إمبراطوريات وتجارة في الداخل والخارج.. غزة التي أطعمت كل جائع تكابد اليوم مجاعة حقيقة بدأت تفتك بأهلها، وتواجه جوعاً جعل من عفة أبنائها وبناتها متسولين في الشوارع بحثاً عن رغيف خبز ووجبة طعام، أو مساعدة لتهدئة ألم مريض، أو الظفر بلحاف يؤوي مسناً، أو يستر عجوزاً قلت حيلتها. “الأيام”