عنوان المقال: ليست دولة بل فخ سياسي

عنوان المقال: ليست دولة بل فخ سياسي

أمد/ من جديد، تخرج الإدارة الأمريكية بما تسميه “خريطة طريق” لإقامة دولة فلسطينية. لكن من يتابع السياسة الأمريكية منذ اتفاق كامب ديفيد، يدرك أن هذه ليست سوى صياغة جديدة لإدارة الأزمة، لا لحلها. هذا النمط التفاوضي المتكرر منذ مدريد وأوسلو يقوم على مبدأ: تأجيل القضايا الجوهرية (كالقدس واللاجئين والسيادة) إلى أجل غير مسمى، مع إحاطة الفلسطينيين بسقف تفاوضي منخفض لا يسمح بانتزاع الحقوق.

 

لا سيادة على الحدود، ولا على الأجواء، ولا على المعابر. لا ميناء، لا مطار، لا جيش، ولا القدس. وحق العودة يُشطب من المعادلة. إنها ليست دولة بمفهوم القانون الدولي العام، بل أشبه بـ”كيان وظيفي” ضمن بنية الاحتلال، كما وصفها إدوارد سعيد مبكرًا حين قال: “لقد أرادوا لنا سلطة بلا سلطة، ودولة بلا دولة”. وهذا بالضبط ما يُعرض علينا الآن.

 

ما يُعرض ليس اتفاقًا متوازنًا، بل صفقة طرفها الأقوى هو الذي يضع الشروط. من يقرأ تفاصيل خطة ترامب (صفقة القرن) يدرك أن هذه المقاربة مستمرة؛ حيث لا يوجد أي اعتبار لمبدأ التبادلية في الحقوق، بل يُفصَّل المشروع على مقاس الاحتلال، ويُطلب من الضحية أن توقّع على شروط الجلاد. إنه منطق القوة النيوليبرالية في التعامل مع القضايا الوجودية، حيث تُستبدل الشرعية الدولية بـ”واقعية سياسية” تخدم الأقوى فقط.

 

ورغم حجم الكارثة، يقف المجتمع الدولي عاجزًا أو متواطئًا. قرارات مجلس الأمن تُعطَّل، ولجان التحقيق تُؤجَّل. تكرّر المشهد منذ مجزرة قانا وحتى حرب تموز، ومن بعدها في جنين وغزة. ازدواجية المعايير لم تبدأ اليوم، لكن انكشافها في حرب غزة الأخيرة بلغ ذروته، لدرجة أن منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”أمنستي” صارت تحذر من انهيار النظام القانوني الدولي ذاته إذا لم يُحاسَب أحد على الجرائم.

 

وفي ظل هذا كله، يعيش الناس في غزة بين مطرقة الحرب وسندان اللاموقف. من يقرأ الأدبيات السياسية حول “سياسات الإنهاك”، كما طرحها الكاتب الإيطالي جورجيو أغامبين، يدرك أن ما يُمارَس على غزة ليس حربًا فقط، بل هندسة بقاء بيولوجيّ تُخضع الإنسان الفلسطيني لحالة “استثناء دائم”، حيث لا قانون يحميه ولا مخرج يُمنح له. إنها الإبادة عبر الاستمرار، لا عبر الضربة القاضية فقط.

 

غزة تُدمَّر يوميًا، والعدوان مستمر منذ ما يقارب السنة والتسعة أشهر. وهنا، يُلاحظ كيف أن نتنياهو يستخدم الحرب كأداة للهروب من أزماته الداخلية، تمامًا كما فعل سابقًا شارون بعد اقتحام الأقصى، أو باراك خلال الانتفاضة الثانية. الحرب بالنسبة له لم تعد مسألة أمن فقط، بل استمرار لحكمه، ولتمرير الأجندة التوسعية التي يحملها تحالفه الحاكم.

 

وفي هذا السياق، تصبح مسؤولية القيادة الفلسطينية، في غزة والضفة، أكبر من أي وقت مضى. من يقرأ تاريخ المقاومة في لبنان والجزائر والفيتنام، يفهم أن الكفاح المسلح لا يُختزل بالسلاح، بل يُدار بحكمة سياسية ورؤية استراتيجية. حماس مطالبة اليوم أن توازن بين المقاومة كحق، والقيادة كمسؤولية، وبين الصمود كقيمة، والحفاظ على حياة الناس كأولوية لا تتراجع.

 

الفلسطيني لا يرفض الدولة، لكنه يعرف أنها لا تُبنى بهذه الطريقة. كل من راجع محاضر كامب ديفيد 2000، وما كشفته وثائق ويكيليكس عن كواليس مفاوضات أنابوليس، يدرك أن ما يُسمّى “عروضًا سخية” لم تكن سوى محاولات لفرض أمر واقع منقوص السيادة. لذلك، فإن رفض هذه العروض ليس تعنتًا، بل وعي بالتاريخ وبالثمن الذي يريدون من الفلسطيني أن يدفعه مقابل “علم على سارية”.

 

أمام كل هذا الخراب، لم يعد مقبولًا أن يبقى الفلسطينيون أسرى ردود الفعل، أو أن يتعاملوا مع النكبة كقدر محتوم. في أدبيات التحرر الوطني، هناك ما يسمى “اللحظة المؤسسة”، وهي تلك اللحظة التي يعيد فيها الشعب صياغة مصيره بيده. والمطلوب اليوم هو استثمار اللحظة الدموية الراهنة في غزة لبناء لحظة سياسية، من خلال مبادرة وطنية تتجاوز الانقسام وتعيد بناء الشرعية الفلسطينية من الشعب، لا من الخارج.

 

آن الأوان لوقف نزيف الدم من موقع القوة لا الضعف. المطلوب وقف إطلاق نار مشروط، يربط الكفاح بالمسار السياسي، ويعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني. يجب أن تُرفض “خريطة الطريق” الأمريكية بوضوح، وتُطرح في وجهها رؤية فلسطينية موحّدة تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، لا إلى ما يتفضّل به الاحتلال أو حلفاؤه.

 

وفي موازاة ذلك، لا بد من تفعيل أدوات النضال العصري: القانون الدولي، المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، الإعلام الاستقصائي، وتحريك الجاليات. ما يجري في غزة ليس “نزاعًا”، بل مشروع إبادة منظم، ويجب أن يُعرّف عالميًا كذلك. هذه ليست مبالغة، بل توصيف اعتمدته منظمات قانونية محترمة كـ”مركز الحقوق الدستورية” في نيويورك و”شبكة القانون الدولي الأوروبي”.

 

ربما لا نملك موازين القوى، لكننا نملك ما هو أخطر على قوة الاحتلال، الحق، والوعي، والإرادة، فشعب خَبِر النكبة والانتفاضتين، وعرف السياسة كما عرف النضال، وراكم وعيًا من الكرامة لبيروت إلى غزة فرام الله، لا يمكن أن يُخدع.