محادثات الدوحة والمدينة الإنسانية: بين اتفاق مؤقت ومناطق مقفلة للسكان…!

محادثات الدوحة والمدينة الإنسانية: بين اتفاق مؤقت ومناطق مقفلة للسكان…!

أمد/ بين مفاوضات لا تزال تراوح مكانها، ومقترحات “إنسانية” تخفي في طيّاتها مشاريع تهجير وتفتيت، تقف غزة اليوم أمام مفترق حاد: إما هدنة حقيقية تُنقذ الإنسان وتحفظ الكرامة، أو حلول زائفة تُعيد إنتاج الحصار بصيغٍ أكثر قسوة ودهاء.
في هذا المقال، نحاول أن نوضح جوهر المأزق الذي تتخبط فيه المفاوضات الجارية، ونتوقف عند المخاطر الكامنة خلف ما يُسمى بـ”المدينة الإنسانية”، لنكشف كيف تتحول الشعارات الإنسانية أحيانًا إلى أدوات لإدامة السيطرة وتقويض الحقوق.
بين ركام المنازل وصدى المجازر، وفي ظل جوعٍ يمتد على مساحة قطاع غزة من الشمال إلى أقصى الجنوب، تستمر مفاوضات التهدئة في العاصمة القطرية الدوحة، وسط تصريحات متفائلة من الوسطاء، وأجواء ميدانية تُفصح عن واقعٍ آخر: واقع يزداد احتقانًا وتعقيدًا بفعل مشاريع مريبة كخطة “المدينة الإنسانية” التي تنوي إسرائيل إقامتها في جنوب القطاع، ووصفتها وكالة الأونروا صراحة بأنها “معازل بشرية” تهدد بتحويل غزة إلى سجنٍ مفتوح طويل الأمد…..
رغم تأكيدات قطر بأن المفاوضات لم تتوقف وأن الجهود قائمة بشكل يومي، إلا أن الواقع يكشف أن المباحثات لا تزال عالقة عند مربعاتها الأولى، تتراوح بين المقترحات والردود دون تقدم جوهري.
الطرح الأميركي-القطري-المصري يقوم على وقف مؤقت لإطلاق النار يمتد لشهرين، يترافق مع إطلاق مرحلي للرهائن وإدخال مساعدات إنسانية مكثفة، بينما تُؤجَّل القضايا الجوهرية — كالانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع — إلى مراحل لاحقة. غير أن حركة حماس تُصر على ضمانات مكتوبة بشأن الانسحاب الشامل ووقف إطلاق النار الدائم، وترفض أي ترتيبات تُبقي قوات الاحتلال داخل غزة، خصوصًا في مناطق الجنوب مثل رفح وخان يونس.
في هذا السياق، يطفو مشروع “المدينة الإنسانية” كمقترح إسرائيلي يستهدف (حسب مزاعمه) حماية المدنيين وتوفير بيئة إنسانية للنازحين. لكن ما بين السطور، يظهر هذا المشروع كأداة هندسة ديمغرافية تتجاوز أبعاد الإغاثة المؤقتة.
فهو يكرّس فصل السكان في مناطق محددة تحت إشراف عسكري، ويقوّض إمكانية عودتهم إلى بيوتهم ومناطقهم الأصلية.
وكالة الأونروا عبّرت بوضوح عن رفضها لهذا الطرح، واعتبرته امتدادًا لمحاولات إسرائيلية سابقة لإعادة إنتاج واقع نكبة 1948، لكن بوسائل ناعمة وتحت غطاء إنساني.
التدهور الإنساني الحاصل في القطاع لا يقل خطورة عن هذه الترتيبات السياسية، فوفق تقارير الأونروا، يعاني طفل من كل عشرة أطفال دون سن الخامسة من سوء تغذية حاد، في ظل انعدام المياه النقية ونقص حاد في الغذاء والدواء، وإلى جانب ذلك، تزايدت أعداد القتلى في محيط مراكز توزيع المساعدات وتجاوزت عدد 650 إنسان خلال شهرين والتي تشرف عليها جهات غير أممية، وسط غياب الشفافية ورفض الأمم المتحدة التعامل مع ما يسمى بـ”صندوق غزة”، المدعوم من إسرائيل.
ويشكّل ذلك كله بيئة مأساوية، تجعل من إدخال المساعدات عملية ذات طابع سياسي وأمني أكثر من كونها مجرد مهمة إغاثية عاجلة.
الوضع اليوم لا يسمح بمقاربات مؤقتة أو حلول مجتزأة، فجوهر الأزمة لا يكمن فقط في عدد الرهائن أو توقيت وقف إطلاق النار، بل في طبيعة الرؤية التي تُفرض على غزة ومستقبلها: هل تُعامل ككيان إنساني سياسي يستحق الحرية والإعمار والسيادة؟
أم كمجال منضبط أمنياً يُعاد تشكيله وفق رغبات الاحتلال؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي تقف أمامه المفاوضات، وتدور حوله كل التعقيدات.
في ظل ذلك، فإن أي هدنة لا تضمن انسحابًا إسرائيليًا كاملاً، ولا توفر آليات إنسانية نزيهة تحت إشراف دولي، ولا تفتح أفقًا سياسيًا حقيقيًا، ستبقى مجرد استراحة مؤقتة في جحيم مفتوح، ولن تكون “المدينة الإنسانية” سوى وجه جديد لحصار متجدد، يُغلف بالقماش الأبيض لكن يخبئ في داخله نوايا سوداء.
المطلوب اليوم ليس مجرد إنقاذ مؤقت من المجاعة والقصف، بل كسر منظومة التحكم الإسرائيلي بجغرافيا الإنسان الفلسطيني وكرامته.
وهذا لن يتأتى إلا بوحدة الموقف الفلسطيني والعربي وبإرادة دولية جادة، وضغط قانوني وأخلاقي يفرض على الاحتلال أن ينهي عدوانه ويتخلى عن مشاريعه الملتوية، ويعيد للفلسطينيين حقهم في الأرض والحياة والقرار، وينهي احتلاله للأراضي الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة في وطنه، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة القانونية على اراضيها في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.