عندما تُهمل التضحيات… تضيع الفرص ويزداد الوضع سوءًا!

أمد/ منذ معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021، ظنّ كثيرون أن الشعب الفلسطيني يقف على أعتاب تحوّل استراتيجي.
فقد توحدت الجبهات ميدانيًا وشعبيًا من القدس إلى الضفة وغزة وأراضي الداخل المحتل، لتُعلن للعالم أن فلسطين واحدة وشعبها واحد، وأن القدس خطٌ أحمر يتجاوز كل الحسابات. ولكن سرعان ما تهاوت هذه اللحظة التاريخية تحت وطأة الانقسام، والتوظيف الفصائلي الضيّق، والعجز الوطني المزمن.
لم يُستثمر هذا “النصر الرمزي” في بناء وحدة وطنية حقيقية، بل جرى تبديده في مشهد من التنافس على الشرعيات، وتحويل الدم إلى رصيد حزبي، لا مشروع تحرر، ساد الغرور بدل الحكمة، والتفرد بدل الشراكة، فعاد الانقسام أعمق، وفُقد الزخم الشعبي، وتقدّم الاحتلال في تهويد القدس والاستيطان واستباحة الضفة والداخل.
وفي 7 أكتوبر 2023، جاءت معركة “طوفان الأقصى”، لتفجّر كل المعادلات، لم تكن عملية عسكرية فقط، بل زلزالًا جيوسياسيًا هزّ المنطقة والعالم، وأعاد وضع القضية الفلسطينية على رأس الأولويات الدولية.
لكن الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني، خصوصًا في قطاع غزة، كان الأعلى منذ النكبة: أكثر من 250 ألف شهيد وجريح ومفقود، ودمار شامل، وتهجير قسري طال أكثر من مليوني إنسان.
ومع ذلك، فقد مرّ أكثر من واحد وعشرين شهرًا والعدوان الإسرائيلي لا يزال مستعرًا، والمجزرة مستمرة، والمفاوضات متعثرة، والمشهد الفلسطيني أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
لا حكومة وحدة وطنية، لا قيادة موحدة، لا خطة سياسية جامعة، ولا موقف وطني متفق عليه تجاه ما بعد الحرب، في وقت تتكثف فيه المفاوضات الإقليمية والدولية للتوصل إلى هدنة مؤقتة، لا تتجاوز سقف (وقف إطلاق النار، وإطلاق عدد من الرهائن والأسرى، مقابل المساعدات والدعم الإنساني).
فهل يعقل أن تُختزل كل هذه التضحيات الجبارة في هدنة هشة تُدار بأدوات إقليمية ودولية، دون إرادة فلسطينية موحدة…..؟!
وهل يُعقل أن يكون هدفنا مجرد إدخال مساعدات أو إعمار ما دُمّر، دون أن نُعيد النظر في أصل المعركة: وهي التحرر من الاحتلال، واستعادة الأرض والكرامة والسيادة… الخ؟
إنّ استمرار هذا الواقع لا يُهدد غزة وحدها، بل يُهدد المشروع الوطني الفلسطيني برمّته.
فهدنة بلا رؤية وطنية، تعني ترسيخ الانقسام، وإعادة تدوير الأزمة، لا إنهاءها.
وإعمار بلا وحدة، يعني إدارة كارثة لا تجاوزها.
ومفاوضات بلا تمثيل جامع، تُعيدنا إلى “أوسلو آخر” بلا ضفاف ولا كرامة.
من هنا، فإنّ اللحظة التاريخية تستدعي ما هو أبعد من التهدئة. تستدعي:
إنهاء الانقسام فورًا، واستعادة الوحدة الوطنية على أسس نضالية وشراكية شاملة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية جامعة وموحدة لكل مكونات الشعب الفلسطيني.
ثم توحيد الخطاب السياسي والميداني، وربط النضال الشعبي بالمقاومة السياسية والدبلوماسية، ضمن إطار نضالي مقاوم وموحد.
تحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن العدوان والتدمير والقتل والتجويع، وملاحقته في كل المحافل الدولية، دون مساومة أو صمت.
إنّ شعبنا الذي صمد في وجه القصف والقتل والتجويع والتشريد، لا يستحق أن يعود إلى واقع ما قبل الطوفان، بل إلى مشروع ما بعده: مشروع الحرية والاستقلال والانعتاق من الحزبية الضيقة والحسابات المريضة.
فهل نرتقي إلى مستوى دماء الشهداء وآهات الجرحى والمُهجّرين…..؟!
أم نظل رهائن لمعسكرات التفاضل الفصائلي والتفاهمات المرحلية والتمويل المشروط ….؟!
فإمّا أن نخرج من هذا الطوفان إلى شاطئ الوحدة الوطنية… أو نغرق في دوامة لا شاطئ لها ولا قاع.
… وللحديث بقية.