لحظة الانفجار الأعظم وتداعياتها بعد مرور 21 شهرًا..!

أمد/ ما الذي بقي من “الطوفان” بعد أكثر من 640 يوم من الدم والدمار؟ وهل لا تزال المقاومة قادرة على تحويل الألم إلى مشروع تحرر وطني جامع؟
منذ لحظة انفجار “عملية طوفان الأقصى”، بدا وكأن التاريخ الفلسطيني قد دخل منعطفًا جديدًا، تتقاطع فيه المقاومة والدمار، الأمل والانكسار، البطولة والخذلان.
واليوم، وبعد مرور أكثر من 21 شهرًا على تلك العملية غير المسبوقة، يقف الشعب الفلسطيني ومعه العالم أمام أسئلة مصيرية: ماذا أنجزت المقاومة؟ وما حجم الثمن؟ وهل كانت تلك اللحظة بداية تحرر، أم حلقة أخرى في مسلسل النكبات المتتالية؟
في هذا المقال نحاول الإجابة، بهدوء وموضوعية، على هذه الأسئلة الصعبة.
مرّ أكثر من واحد وعشرين شهرًا على انطلاق “عملية طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 م، والتي شكّلت لحظة انفجار كبرى في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، لم تشهد المنطقة مثيلاً لها منذ عقود.
ومع استمرار تداعياتها على الأرض، تبرز الحاجة اليوم إلى قراءة أعمق، تتجاوز العاطفة، وتلامس حقيقة ما جرى، وما آل إليه المشهد الفلسطيني والعربي والإقليمي.
لقد مثّلت “عملية الطوفان” تحوّلًا نوعيًا في مسار الصراع، من حيث المباغتة والميدان والرمزية.
فقد أعادت إلى الشعب الفلسطيني، ولو مؤقتًا، الشعور بالمبادرة والقدرة على كسر الجمود الطويل، وأعادت طرح القضية الفلسطينية على أجندة العالم، بعدما غُيّبت عمدًا في أروقة التسويات والتحالفات المتبدّلة.
لكن ما أعقب العملية كان كارثيًا على المستوى الإنساني، وخاصة في قطاع غزة، حيث شُنّ عدوان إسرائيلي غير مسبوق، بلغ مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وفق توصيف العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية.
دُمّرت البنية التحتية للقطاع، واستُشهد عشرات الآلاف من المدنيين، وهُجّرت مئات الآلاف من الأسر من منازلهم، وسط حصار خانق طال البشر والحجر، ووسط صمت دولي، أو تواطؤ معلن.
رغم هذا الثمن الفادح، إلا أن العملية كشفت عن عدة حقائق سياسية واستراتيجية لا يمكن تجاهلها:
أولًا، أثبتت أن خيار المقاومة لا يزال حيًا في الوجدان الشعبي الفلسطيني، مهما بلغت كلفة المواجهة، وأن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد قادرًا على إدارة الصراع ضمن معادلة “الردع من طرف واحد”. فقد اضطر إلى خوض أطول حروبه وأكثرها دموية، في ظل اهتزاز داخلي سياسي وعسكري، وتآكل صورته الأخلاقية على المستوى العالمي.
ثانيًا، أظهرت العملية هشاشة الموقف العربي الرسمي، وعجزه عن التأثير أو حتى حماية الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للفلسطينيين، في وقت اختار فيه بعض الأنظمة الهرولة نحو التطبيع، بينما انشغل البعض الآخر في صراعات داخلية أو حسابات محاور.
ثالثًا، أكدت التجربة أن التضحية وحدها، مهما بلغت شراستها أو رمزيتها، لا تكفي لتحقيق إنجاز سياسي دائم.
فما لم يُترجم الفعل الميداني إلى مشروع وطني موحد، ورؤية تحررية واضحة، وقيادة قادرة على احتضان التضحيات واستثمارها، فإن المآلات ستكون تكرارًا للتاريخ الفلسطيني المرير، حيث تتراكم البطولات بلا نتائج سياسية تُذكر.
إن ما جرى يجب ألا يُختزل في مشهد بطولي، ولا أن يُمحى تحت ركام المجازر، بل يجب أن يكون دافعًا صادقًا لمراجعة وطنية شاملة، تتجاوز منطق الفصائل والمكاسب الضيقة، نحو بلورة استراتيجية تحرير حقيقية تُنقذ ما تبقى من القضية الفلسطينية، وتُعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني في كرامته وحقه في الحياة.
ولا يمكن الوصول إلى هذا الهدف دون تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية كأولوية قصوى، ووضع حدٍ نهائي لحالة التمرد والانقسام المدمر، التي عطّلت المشروع الوطني لعقود، وفتحت الباب أمام التغول الإسرائيلي، والعبث الإقليمي والدولي بالقضية.
إن إعادة بناء البيت الفلسطيني، على أسس ديمقراطية وشراكة حقيقية وتمثيل جامع، لم تعد ترفًا أو خيارًا مؤجلًا، بل أصبحت شرطًا أساسيًا لتجاوز الكارثة الراهنة، وتحويل التضحيات الجسام التي بُذلت، خصوصًا في غزة، إلى استثمار سياسي فعّال يقود إلى هدف استراتيجي واضح: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي بكل أشكاله، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه المشروع في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي.
إن “طوفان الأقصى” يجب أن يكون لحظة فاصلة لا فقط مع العدو، بل أيضًا مع الذات، مع الانقسام، ومع التردد السياسي.
فإما أن تتحوّل هذه اللحظة إلى رافعة تحرر وبناء وطني جامع، أو تُهدر كما أُهدرت محطات نضالية سابقة.
والخيار ما زال رغم الجراح، بأيدي الفلسطينيين أنفسهم وقواهم الفاعلة على اختلافها وفي المقدمة منها حركتي فتح وحماس، وفي إطار جامع شامل، منظمة التحرير الفلسطينية، إن امتلكوا الإرادة السياسية والرؤية والبوصلة الوطنية وبعيدا عن الاجندات الحزبية والفصائلية، وإلا فإن هذه التضحيات الكارثية، ستذهب مع الريح شأنها شأن سلسلة الكوارث والنكبات التي تعاقبت على فلسطين وشعبها.