حرب الإرهاق

أمد/ كثر الحديث هذه الأيام عن حرب الاستنزاف، لذلك رأيت إعادة نشر مقال حول ذلك نشرته في 8 فبراير 2024، توقعت فيه أن تتجه حماس نحو هذا الأسلوب من القتال لأسباب عديدة مذكورة في المقال.
أود أن أضيف عدة ملاحظات على هذا المقال لعلها تجيب على الأسئلة الجديدة المطروحة.
لقد جرب الشعب الفلسطيني هذا الاسلوب النضالي مرات عديدة، ووصل الشعب وقواه السياسية إلى قناعة انه لأسباب ديمغرافية، منها طبيعة جغرافية فلسطين السهلية الضيقة، وتكنولوجية تتمثل في قدرة وامكانيات إسرائيل الهائلة على ملاحقة المقاتلين والقضاء عليهم، وأسباب كثيرة أخرى فإن هذا الأسلوب لا يتلائم مع الواقع الفلسطيني.
في حرب العصابات تتجلى بطولة الأفراد، وهذه البطولة سجلها العالم للمقاتل الفلسطيني في مواقع كثيرة، مثال صغير على ذلك تتجلى في بطولة المقاتل الذي استطاع ببندقيته القديمة في عيون الحرامية قتل عشرة جنود اسرائيليين، والطفل الذي واجه الدبابة، والعمليات البطولية خلف خطوط العدو الذي مارسها الفلسطينيون طويلا، وتجربة غزة والضفة في نهاية ستينات ق20، وكثير كثير من العمليات التي سجلها التاريخ، ليس مهمتنا سردها ولكن ذكرناها كامثلة على بطولة الإنسان والمقاتل الفلسطيني في كل المواقع والازمنة.
أن العامل المحدد في حرب العصابات ليست بطولة وقوة وارادة المقاتل، ولكنه الواقع الجغرافي وإمكانيات المقاتل ووجود قواعد اسناد توفر له متطلبات مواصلة المعركة، إضافة إلى قوة الاحتلال ومايملكه من مقدرات هائلة في المتابعة والملاحقة. هذه هي العوامل الحاسمة في تحديد مصير مثل هذا الشكل من القتال. ان فقدان الشعب الفلسطيني لقواعد الإسناد تاريخيا وحاليا هو العامل الرئيسي في فشل هذا الأسلوب القتالي.
أن الادعاء أن الزمن يعمل لمصلحة المقاومة وأن الاحتلال لا يستطيع أن يتعمق بريا في قطاع غزة، ادعاءات ينفيها الواقع وكل من يتابع من يرفع مثل هذه الشعارات، بدءا “بقدروش يدخلو بري” وصولا “ليدخلوا رفح ويخلصونا”.
أن مواصلة هذه الحرب رغم ما بتجلى فيها من بطولات واقدام وتحدي يسطره المقاتلين يثير الإعجاب ويؤثر ايجابيا على معنويات أصحاب هذا النهج وسلبيا على معنويات مجتمع الاحتلال وقواته، الا أن هذا التأثير المؤقت سيتغير قريبا لان الاحتلال يستطيع أن يتحمل حجم الخسائر القليلة التي تقع بين جنوده، كما يتحمل الخسائر في المعدات التى لا يشكل تعويضها عليه عبئا كبيرا.
ان النفخ الاعلامي الذي تمارسه الفضائيات، خاصة قناة الجزيرة وأصحاب اعلام “الحدث الامني”، والمبالغة في حجم خسائر الاحتلال وتأثير ذلك على الجنود والمجتمع الإسرائيلي يصب في مصلحة إسرائيل التي تتخذ من ذلك ذريعة لمواصلة الحرب وتحقيق أهدافها المعروفة.
أن حرب الاستنزاف في مثل حالتنا في قطاع غزة هو استنزاف لشعب النازحين الجعانين في غزة وأبنائه وممتلكاته التي يسقط فيها يوميا ما بين 50 الى 100 ضحية، إضافة إلى مئات الجرحى الذين لا يجدون علاجا ولا مسكنات، في ظل انهيار النظام الصحي في غزة.
أن نتيجة هذه الحرب المنطقية والواقعية، بعيدا عن الشعارات، انها اولا، لن تستطيع تغير واقع ونتائج حرب الطوفان التي حدثت في غزة، كما انها ثانيا، تصب في مصلحة مخطط إسرائيل التي تريد غزة مدمرة معدومة الحياة طاردة لسكانها نحو التهجير.
أن أحد اهداف الاحتلال من المنطقة الانسانية هو القضاء على إمكانية مواصلة هذا الشكل من القتال وفي نفس الوقت دفع السكان نحو الهجرة.
باختصار في هذه اللحظة السياسية، لا الجغرافيا ولا الزمن ولا الواقع يعمل لصالحنا. ليس أمامنا الا أن نعترف بنتائج الحرب، ونحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ونحمي غزة من خطر الموت والجوع والتهجير ونحمي الشعب والقضية من خطر الاندثار.
….
غزة: خيار السنوار وطريقة تفكيره، اليوم التالي، رؤيا استشرافية؟!
8 فبراير 2024
يعرف السنوار وصحبه الان جيدا، أن قوة القسام العسكرية الرئيسية قد تدمرت، أسلحة وبنية تحتية واتصالات وتشكيلات عسكرية تقليدية، ولم يبق من هذه القوة الا مئات أو آلاف من المقاتلين المدربين والمستعدين لمواصلة القتال/الجهاد مع اسلحتهم الخفيفة. إضافة إلى ذلك آلاف من الشباب الناشيء الذي قد يندفع للانضمام إليهم. يستطيع هؤلاء المقاتلين التشكل في مئات الخلايا النووية والانتشار في مختلف أنحاء قطاع غزة لشن حرب عصابات، يلتحق بها آلاف الشباب المتحمس من مختلف الاتجاهات الدينية والوطنية، مستقلين وحزبيين. لذلك نرى القسام في هذه المرحلة قد غير من اسلوبه القتالي، من المواجهات المباشرة إلى المجموعات القتالية الصغيرة من اجل الحفاظ على هؤلاء الشباب وعدم الزج بهم في مواجهات واسعة وجها لوجه.
باختصار، مشروع حماس السياسي في حكم غزة انهزم وانتهى، وغزة كلها سقطت واقعيا تحت الاحتلال العسكري الاسرائيلي. كما ان مشروع حماس العسكري التقليدي المبني على قوات شبه نظامية تدمر ولكنه لم ينتهي.
ان ورقة القوة في يد القسام ليس فقط الرهائن الاسرائيليين، رغم أهمية ذلك، هذه الورقة ستنتهي اجلا ام عاجلا، سياسيا أو عسكريا، بل قد تتحول إلى عامل ضغط واعاقة على تحركاتهم الصعبة في مثل هذه الظروف. أن عامل القوة التي يمتلكها القسام وفقا لطريقة تفكير السنوار وجماعته من القيادات هي الذهاب باتجاه حرب العصابات. اعتقد أن هذه الفرصة/الفكرة، هي التي تدور حاليا في خلد السنوار وصحبه ويعملون عليها وجاهزين لها، ويعولون عليها في رفض شروط الهدنة المعروضة أو المماطلة في قبول شروطها الصعبة والاعتراف بالهزيمة، وهذا ما يظهر التناقض بين قيادة حماس في الخارج وقيادة القسام.
السؤال، هل هذا ممكن؟ هل من الممكن الذهاب باتجاه حرب عصابات في ظل عدم وجود حاضنة شعبية تعبت وعانت كثيرا من معاناة وويلات الحروب؟! نعم هذا ممكن من وجهة نظرهم وهناك عناصر تدفع في اتجاه هذا الخيار:
١. وجود قيادة مؤمنة بهذا الأسلوب القتالي وتتميز بالعناد والمواقف الراديكالية، ولا تعمل من أجل اهداف أو برنامج سياسي واقعي، كما تقلل من شأن مصالح الناس المدنية والحياتية على الأرض، إضافة إلى انغلاق الافق أمامها وفقدان أي أمل في عودة مشروعها السياسي.
٢. وجود آلاف العناصر المدربة والمجربة عسكريا والمؤمنة بهذا النهج وتمتلك إرادة القتال وتعشق الشهادة ولا أفق أمامهم الا الموت أو السجن.
٣. توفر الأسلحة الخفيفة وإمكانية تصنيعها وتهريبها.
٤. اتساع رقعة انتشار قوات العدو وضعف تحصيناتها، خاصة في المرحلة الاولى وفي مناطق القشرة.
هذه العناصر الاربعة، صفات القادة والعناصر والواقع، تؤهلهم لممارسة هذا الشكل من القتال والنجاح فيه، وايلام قوات الاحتلال، يمكن أن تستمر هذه المعركة/المواجهة لشهور طويلة تصل إلى حد السنتين.
لكن هذا المشروع العسكري سيواجه مشاكل/معضلات:
الأولى، ضعف الحاضنة الشعبية بل معاداة كثير منها بسبب معاناتها من الحروب
الثانية، ان هذا المشروع يتناقض مع مشروع حماس السياسي، البقاء كفصيل سياسي معترف به عربيا وفلسطينيا يسعى إلى الانضمام إلى م ت ف وتندمج في الإقليم وسياساته، بل يزيد من اعدائها ويؤدي الى تدميرها، من الصعب إيجاد دولة عربية حاضنة لحماس اذا تبنت مشروع السنوار، كذلك هذا صعب على إيران وانكشاف لحماس اذا احتضنتها ايران بالكامل، سياسيا وعسكريا.
لكن هناك احتمال ايضا ان اكتسب هذا المشروع تأييد حركة الاخوان المسلمين وحظى بدعم سياسي واعلامي من احد الدول القريبة من الاخوان المسلمين، عربية أو اسلامية مهما كانت بعيدة جغرافيا، اليمن الحوثي مثلا، هذا سيكون رافعة قوية لإعادة قوة الاخوان في المنطقة العربية كلها وتعزيز دور حماس في المسألة الفلسطينية، على الأقل طيلة فترة استمرار هذه المقاومة، سنتين على أقصى تقدير. هل تقبل دول الإقليم بمثل هذا الاحتمال، هذا سؤال أخر؟!
الثالث، انه يعطي إسرائيل الفرصة لمزيد من البطش في اهل غزة، قتل واعتقالات واسعة، وتدمير ما بقي من بيوت وبنية تحتية
الرابع، انه يخلق حالة عدم استقرار وفوضى في غزة تدفع السكان إلى الهجرة.
هذا المشروع والمواجهة العسكرية في غزة ستنعكس عمليا على الضفة الغربية والخلايا والمجموعات والكتائب العسكرية الموجودة حاليا هناك وسيعزز عملها ويزيد من نشاطها ضد الجيش والمستوطنين، مما يعرض الحياة في الضفة إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار وتدمير الانجازات السياسية والمؤسساتية والبنية التحتية، ويدفع الجيش والمستوطنين لمزيد من الاجتياحات والقتل والتدمير واستخدام مختلف أنواع الأسلحة ضد المدنيين في الضفة، يفوق بمرات ما يستخدمه الان وشبيه بما يستخدمه في غزة، وقد يدفع إلى إعادة أحياء مشروع تهجير سكان الضفة، خاصة سكان المخيمات، إلى الأردن.
السنوار وربعه، وقيادات جديدة أخرى قد تتشكل في حال القضاء على القيادة الاولى، يبحثون عن البطولة والشهادة ولم يتربوا على الاهتمام كثيرا بمصالح العباد والبلاد، لانها مصالح دنيوية يجب الا تعلو على المصالح الاخروية، الجهاد الشهادة الجنة. لذلك لن تستسلم هذه القيادة لا سياسيا ولا عسكريا ولن تسلم لاحد غيرها، ولن تقبل بالخروج من غزة، وخيارها واضح وهو خيار مواصلة القتال، بغض النظر عن النتائج وحتى لو فني كل الشعب الفلسطيني، كما صرح بذلك السنوار في إحدى خطبه، اننا جاهزون لان نقتل لآخر طفل فينا، نقتل عن بكرة ابينا، ان نفنى جميعا، ان نحرق رجالا ونساء واطفالا، كما حرق اصحاب الاخدود، لتعيش فكرتنا، لاحظوا لتعيش الفكرة وليس الشعب. السؤال؟ هل هذه قوة أم معاندة ومقامرة بحياة شعب ومستقبله.
نتائج هذا المشروع العسكري ستصب في النهاية، بطريقة او بأخرى، في خدمة الهدف السياسي الاسراىيلي، رغم أنه يؤلمها ويوقع خسائر بين صفوفها، هذا المشروع الذي يبحث عن ذرائع من أجل اطالة أمد الحرب على غزة وقتل وتدمير الحياة وخلق الفوضى وعدم الاستقرار فيها، مما يؤدي إلى تحقيق هدفها الرئيسي من الحرب: هجرة أغلب سكان غزة وجزء من سكان الضفة، وهنا مربط الفرس.
هذا السناريو المحتمل، الذي يهيج روح وحماس كثير من الثوريين ويدغدغ عواطفهم الدينية والثورية، سيعيدنا خمسين سنة إلى الوراء، سيعيدنا إلى مرحلة السبعينات من القرن العشرين، قافزا على كل المنجزات السياسية التي حققها الشعب الفلسطيني طيلة هذه السنوات، وهكذا نعود من جديد للدوران في نفس الحلقة العبثية.