مفاوضات غزة: أزمة معقدة وقرارات صعبة

مفاوضات غزة: أزمة معقدة وقرارات صعبة

أمد/ تتسم المفاوضات الجارية بين حماس وإسرائيل، بوساطة قطرية، بتعقيد غير مسبوق ينبع من التداخل العميق بين الصفقة الجزئية والصفقة الشاملة لوقف الحرب. هذا التداخل يجعل الفصل بين المسارين أمراً بالغ الصعوبة، ويشكل جوهر التعقيد الحالي. تكمن المشكلة الأساسية في التقدم الميداني الذي أحرزته إسرائيل والأوراق الضاغطة المتعددة التي جمعتها، مما يمنحها قدرة هائلة على المناورة خلال المفاوضات، ويُفسر تكتيكها في إرهاق المفاوض الحمساوي.
الإغراق الإسرائيلي في التفاصيل لتضييق الخناق على حماس
خيارات إسرائيل في هذه المفاوضات واسعة ومتنوعة، سواء تعلق الأمر بصفقة جزئية أو شاملة. تشمل هذه الخيارات ملف المساعدات الإنسانية، والانسحاب من المنطقة العازلة، ومحور موراج، ومعبر رفح، بالإضافة إلى المنطقة الإنسانية المزمع إنشاؤها في رفح. لكن القضية المحورية التي تدور حولها المفاوضات هي مستقبل حماس في قطاع غزة، حيث لا تزال الحركة تسعى جاهدة للحفاظ على سيطرتها بعد الحرب.
إسرائيل ترفض رفضاً قاطعاً أي وقف مؤقت لإطلاق النار قد يضعف أوراقها التفاوضية، أو يجردها من أدوات الضغط في المرحلة الثانية من الصفقة. على سبيل المثال، لو انسحبت إسرائيل من المناطق التي سيطرت عليها بعد عملية “عربات جدعون”، ومن محور موراج ومعبر رفح، وعادت آلية دخول المساعدات القديمة، وتم التعامل مع ملف الإعمار كما تطالب حماس في حل جزئي (تسليم نصف الأسرى مقابل هدنة 60 يوماً وتدفق المساعدات)، فكيف ستتمكن من ممارسة الضغط على الحركة بشأن المختطفين المتبقين في المرحلة الثانية من المفاوضات؟
إن فصل ملفات الحل المؤقت عن الحل النهائي معقد للغاية، إذ ترى إسرائيل أن تلبية مطالب حماس في الحل الجزئي سيضعف موقفها التفاوضي في الحل النهائي. في المقابل، لا تملك حماس سوى ورقة المختطفين. ميدانياً، تفتقر الحركة إلى أوراق تفاوضية مؤثرة. الأدوات الميدانية لحماس، مثل العبوات الناسفة شديدة الانفجار والخلايا الهجومية والقذائف المضادة للدروع، تفتقر إلى الثقل السياسي المطلوب، وتتطلب أعباء تشغيلية كبيرة، ونجاحاتها محدودة. الأهم من ذلك، أنها تفتقر إلى الجدوى الاستراتيجية، فهي عاجزة عن ترجمة هذه الأدوات إلى أوراق تفاوضية تجبر إسرائيل على التراجع ميدانياً أو إعادة تقييم أهدافها من الحرب.
بما أن ورقة المختطفين هي الأداة الوحيدة المتاحة لحماس، فهذا لا يؤهل المفاوض الحمساوي لمواجهة المفاوض الإسرائيلي بقدرة على طرح خيارات ضغط مؤثرة. على النقيض، تمتلك إسرائيل قدرة لا محدودة على ابتكار خيارات في كل ملف من ملفات التفاوض، بدءًا من أبسط المسائل وصولاً إلى الملفات الاستراتيجية. فحقل حماس محاصر بالكامل، ليس ميدانياً فحسب، بل زمنياً أيضاً، سواء إنسانياً أو سياسياً واستراتيجياً.
لقد بدأت إسرائيل في المفاوضات الجارية بإرهاق المفاوض الحمساوي بتفاصيل متناهية الصغر وبالغة التعقيد في كل ملف عالق. يمكن تخيل كيف تحول إسرائيل كل تفصيلة في ملف الإعمار إلى قضية أمنية وسياسية بالغة التعقيد. هذا التكتيك الإسرائيلي معروف، وهو الإغراق في التفاصيل وفي تفاصيل التفاصيل، وتحويل كل تفصيلة إلى إشكالية عميقة وعقبات واستعصاءات. هذا ما ينتظر حماس في كل الملفات: الإعمار، الانسحاب، إعادة الانتشار، المعابر، الغذاء، الكهرباء، والمياه.
مأزق حماس: خيارات محدودة وعبء متزايد
من المنظور الإسرائيلي، تكمن المشكلة الجوهرية في وجود حماس في قطاع غزة. أما من منظور غزة، فلا تستطيع حماس مواجهة هذا الإغراق في تفاصيل كل الملفات، التي ستحتاج عقوداً لحلها، هذا إذا تمكنت من ذلك أصلاً.
يتعين على حماس بناء خياراتها على ما تستطيع فعله، وليس على ما لا تستطيع فعله. بمعنى أنها لا تستطيع إجبار إسرائيل على الرضوخ الكامل، لكنها تستطيع التحكم في خياراتها الخاصة، ومن خلالها قد تتحكم في بعض خيارات خصمها. فإذا تخلت حماس عن الحكم وخرجت من قطاع غزة، وكفت عن هذا الشكل من المقاومة الذي يستنزف المقاومة من الداخل، فإن ذلك سيجبر إسرائيل على التخلي عن كل هذه التفاصيل التي لا تجدي ولا تنفع سكان غزة.

دعوة إلى مقاربة جديدة: مستقبل غزة بيد أهلها

ليترك سكان غزة أنفسهم يدبرون أمرهم مع الاحتلال، وليحصلوا منه على ما يعزز صمودهم وبقائهم في القطاع، ولتُقطع عنه كل السبل التي يمكن أن يستخدمها ضد غزة. الحل الأمثل هو أن تتوقف حماس عن المماطلة وتتخذ موقفاً جريئاً وتترك القطاع، ليواجه سكانه الاحتلال دون وساطة مزيفة، أو مقاومة مسلحة تجلب الاحتلال وتجعلهم أهدافاً له.

يقوم الحل الحقيقي على أن تتخلى حماس عن الحكم في غزة وتركز على ما يمكنها تحقيقه، بدلاً من السعي وراء المستحيل، حيث أن قدراتها الميدانية تفتقر إلى الثقل السياسي الكافي لإجبار إسرائيل على التراجع أو تغيير أهدافها الاستراتيجية.

نحن، سكان غزة، سندبر أمرنا في ترسيخ بقائنا وتعزيز صمودنا على هذه الأرض، ونحصل على ما يخدمنا في تحقيق ذلك بالحيلة، لنجعلها ضمن ترسانتنا. فذلك يمنحنا الوقت للتعافي وتقويض راحة العدو في الخفاء والانتظار إلى أن تزول عنه قوته. ندعو إلى مقاربة يتمكن فيها سكان غزة من تدبير أمورهم بعيداً عن أعباء نموذج حماس في المقاومة المسلحة التي جلبت الكارثة، والتي أصبحت محاصرة ليس فقط ميدانياً بل زمنياً وإنسانياً وسياسياً.

وعليه، ليس أمامنا إلا ثلاثة خيارات:

1. أن تمتلك حماس أوراق قوة تجبر إسرائيل على وقف الحرب (وهذا ليس في المستطاع).

2. أن ترفع حماس يدها عن غزة وتقبل باستحقاق الهزيمة (وهذا ما تستطيعه).

3. إذا لم تمتلك حماس هذا ولا ذاك، فالنتيجة ستكون رفع مستوى الكارثة في قطاع غزة والدفع به إلى حافة الهاوية.