التحولات السياسية والعوامل التي تؤثر على قلة المشاركة الشعبية في القضايا العامة

أمد/ تثور تساؤلات متعددة في أروقة مؤسسات الحكم والفصائل الفلسطينية والحراكات الاجتماعية، وفي الجلسات الاجتماعية عن ضعف التضامن الشعبي مع قطاع غزة على مدار الحرب الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والصوت الخافت في شوارع مدن الضفة الغربية مقابل تضامن واسع في عواصم الدول الأوروبية ومدنها وجنبات الدول الأخرى. كما يهمس البعض بحجم التراجع الحاصل على المشاركة الشعبية في قضايا الشأن العام “العمل السياسي والمجتمعي” كمعضلة جديدة في عملية التحول في المجتمع الفلسطيني سواء كان ذلك من خلال العزوف عن المشاركة السياسية كالانضمام إلى الفصائل السياسية، أو المشاركة المجتمعية كالعمل التطوعي وفي الاحتجاجات الاجتماعية الاخرى.
بالرغم من تأثر المشاركة الشعبية بمتغيرات ايجابية كالثورة المعلوماتية في الحشد والمناصرة والتعبير عن الرأي إلا أنّ المتغيرات الفلسطينية أدّت إلى عزوف المواطنين عن المشاركة وبخاصة الفئات الشبابية منهم؛ فيعاني المجتمع الفلسطيني من أزمة تتمثل في ضعف قدرته على بناء جسر ثقافي يسهل ويهيئ التواصل والتفاعل ما بين أدوات العمل السياسي؛ كضعف أدوات عمل الفصائل الفلسطينية التي كرست الفكر الأبوي “الزعيم” والمركزية في اتخاذ القرارات في أنظمتها الداخلية بدمج الشباب في العمل السياسي. كما أنّ هناك عوامل تتعلق ببنية النظام السياسي القائم والتحولات في اتجاهات المواطنين السياسية، وغياب القدوة والنموذج في العمل الوطني والسياسي.
يبدو أنّ التحولات السياسية على بينة التأييد الحزبي للفلسطينيين أثرت بشكل كبير على اعتقادات المواطنين أو أغلبية المواطنين خاصة بعد ازياد التأييد لحركة حماس التي لا ترى بالعمل الشعبي أو المقاومة الشعبية وسيلة ناجعة في مواجهة الاحتلال أو تحقيق الأهداف الآنية والمجتمعية بقدر ما ترى أنّ الكفاح المسلح هو الوسيلة الأنجع مقابل تراجع القوى التي طورت أدوات المقاومة الشعبية قُبيل الانتفاضة الأولى “انتفاضة الحجارة” وفيها.
تسعى هذه الورقة إلى فهم تأثير التحولات السياسية على سلوك المواطنين فيما يتعلق بالمشاركة الشعبية في الشأن العام الفلسطيني بشقيه الخاص بالمقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال والمشاركة في الفضاءات المدنية بغية الاشتراك في صنع وتنفيذ القرار السياسي والرقابة عليه، والنظر في مواقف المواطنين وأسباب ضعف المشاركة الشعبية في السنوات الأخيرة، وعوامل تراجع قوة الشباب في المجال العام، وعدم نجاح الحراكات الاحتجاجية في فلسطين.
تهدف هذه الورقة إلى تطوير مسارات عمل تعزز المشاركة الشعبية في الحياة العامة من خلال الأدوات التأطيرية كالأحزاب والحراكات الاجتماعية كفاعلين سياسيين ومجتمعيين، وتقديم عدد من التوصيات التفصيلية لتفعيل هذه المشاركة الشعبية.
(1) ضعف التأييد للمقاومة الشعبية والعوامل التي تحول دون المشاركة فيها
يستعرض هذا القسم عدداً من العوامل والتحولات السياسية التي أدّت أو ساهمت في ضعف المشاركة الشعبية بالمقاومة الشعبية غير المسلحة.
· التحول الذي جرى على تأييد المسار السياسي التفاوضي
تظهر نتائج استطلاعات الرأي العام أنّ المسار السياسي المتمثل باتفاق أوسلو قد فَقَدَ تأييد المجتمع الفلسطيني بعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيعه؛ فقد أيد حوالي ثلثي المجتمع الفلسطيني (65%) اتفاق أوسلو في استطلاع للرأي العام أجراه مركز البحوث والدراسات الفلسطينية في شهر أيلول/ سبتمبر 1993، فيما أيد حوالي ثلاث أربع المجتمع الفلسطيني (72%) اتفاق طابا (أوسلو 2) في تشرين أول/ أكتوبر العام 1995.[2] في المقابل أيد ثلثي المجتمع الفلسطيني (63%) قيام السلطة الفلسطينية بالتخلي عن اتفاق أوسلو، وترى نسبة عالية (71%) أنَّه كان من الخطأ قيام منظمة التحرير الفلسطينية بالتوقيع على اتفاق أوسلو، وتقول أغلبية تبلغ 68% أنَّ اتفاق أوسلو قد أضر بالمصلحة الفلسطينية وفقاً لنتائج استطلاع الرأي العام أجراه المركز للبحوث السياسية والمسحية أيلول 2023.[3]
فيما أظهرت آراء المواطنين آنذاك احتمالية الوصول إلى حالة من الإحباط خاصة أنَّ مسألة الخلافات الداخلية لم تكن بين القوى السياسية فقط إنّما أعمق من ذلك في أوساط الجمهور الفلسطيني؛ فوفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز البحوث والدراسات الفلسطينية عام 1993 فإنَّ 45% من المواطنين اعتقدوا أنَّ الاتفاق سيؤدي لقيام دولة فلسطينية وتحقيق الحقوق الفلسطينية مقابل 34% اعتقدوا أنَّه لن يؤدي لإقامة دولة فلسطينية واعتقد 20% من المواطنين أنَّهم غير متأكدين من ذلك. وانقسم المواطنون حول وقف الانتفاضة من أجل مشروع الاتفاق الفلسطيني-الإسرائيلي (47% مؤيد لوقف الانتفاضة مقابل 43% معارض لوقفها).
· التحولات السياسية في تأييد الطريقة الأنجع لتحقيق الأهداف الفلسطينية
تظهر استطلاعات الرأي العام أنّ أغلبية المواطنين يؤيدون الطرق الأقل حدة في عملية المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي أو خيارات كسر الجمود القائم في العملية السياسية، يشير الشكل أدناه إلى أن التأييد الشعبي الأعلى لانضمام دولة فلسطين لمزيد من المنظمات الدولية ومن ثم المقاومة الشعبية غير المسلحة، فيما ارتفع التأييد للكفاح المسلح في السنة الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة بشكل استثنائي.