النسيج الاجتماعي يتضرر… غزة تخوض معارك على عدة أصعدة

أمد/ هنا غزة، لا يتوقف الموت عند حدّ القصف، بل يمتد ليطال البنية الأعمق: الروابط الاجتماعية التي لطالما شكّلت جوهر التماسك والهوية. فكل بيت يُهدم، لا يعني فقط خسارة المأوى، بل غالبًا ما يكون بداية لانفراط العائلة، وشتات العلاقات، وتحوّل الجيرة من أمان إلى فقدان. النزوح القسري والموت المفاجئ والتشظّي المتواصل خلقوا فراغًا اجتماعيًا يزداد اتساعًا يومًا بعد يوم. الأطفال الذين يفترض أن يكبروا في دفء البيوت، يكبرون اليوم بين ركامها، يحملون في قلوبهم صوراً لا تتناسب مع أعمارهم. الرعب المستمر والحصار والإبادة ولّدت في داخلهم مشاهد الصدمة والانكسار، فباتت معالم اضطرابات ما بعد الصدمة، التأتأة، التبول اللاإرادي، والخوف المزمن، جزءًا من يوميات الطفولة هناك. في المدارس إن وُجدت، لا تُدرّس فقط المناهج، بل يُدرّس معها معنى النجاة. إذ لم تعد قاعات الدراسة مكانًا للعلم، بل تحوّلت إلى ملاجئ أو أنقاض. انقطاع التعليم، تدمير المرافق التعليمية، وغياب البيئة المناسبة جعلا الطموح شيئًا مؤجلاً وربما مجهول المصير. وفي ظل هذا الدمار، غابت يد الأمن، لا لأن القانون غافل، بل لأن الدولة نفسها أُنهكت. برزت حوادث سرقة، واشتباكات فردية، وانهيار في الثقة بين الناس، وكأن المجتمع نفسه فقد توازنه. هذا الفلتان لم يولد من الفراغ، بل من القهر والجوع والضياع، ومن هشاشة المنظومة القيمية تحت وطأة القصف. ومع ذلك، تبقى غزة مختلفة، فوسط الركام ينبض قلب لا يعرف الاستسلام. الفنانون يرسمون بالألوان ما عجزت الكلمات عن وصفه، والشعراء يكتبون ما لم تُنطقه السياسة. الإبداع هنا ليس رفاهية، بل طوق نجاة يحفظ الذات من التفكك. في النهاية، فإن ما يجري في غزة ليس فقط محاولة لهدم بيوت أو قتل أجساد، بل هو استهداف لذاكرة جمعية، لموروثٍ ثقافي، ولهوية متوارثة. لكن غزة، برغم كل شيء، تواصل الحياة، وتُصرّ على أن لا تكون مجرد خبرٍ عابر، بل قصة شعبٍ حي، يُعلي صوته من تحت الركام
في النهاية، لا تقتصر الحرب على غزة على تدمير الحجر والبشر، بل تمتد إلى محاولة محو الذاكرة الجمعية، وتشويه النسيج الاجتماعي، وبثّ الشك في الثوابت التي حفظت كرامة هذا الشعب لعقود. إنها معركة على ما هو أعمق من الأرض على الرواية، على الروح، على الوعي. وبينما تتساقط القذائف، يبقى في غزة من يروي، من يوثّق، من يحفظ الحقيقة من التزوير، ويقاوم لا بالسلاح وحده، بل بالكلمة، والصورة، والإرث الثقافي الذي لا يُقصف. هكذا تتحوّل الذاكرة إلى سلاح، ويصبح البقاء فعلاً ناطقًا باسم المستقبل. في غزة، لا تموت الحكاية، بل تُورَّث جيلاً بعد جيل .