غزة بعد الصراع: مجتمع يعيش تحت ضغوط الانهيار الأخلاقي والاجتماعي

أمد/ في شوارع غزة وأسواقها، لم يعد المشهد كما عهدناه، فبدلًا من صور التكاتف والصمود، تطغى مشاهد السلوكيات العنيفة والانفلات الأخلاقي، ما يعكس تحولات عميقة وجارحة في بنية المجتمع الغزّي. تظهر سلوكيات تنذر بالخطر، من السرقة والبلطجة إلى التعدي على الآخرين، في مشهد يعكس حجم الانهيار القيمي والأخلاقي في قطاع أنهكته الحروب والحصار الطويل.
لم تعد تلك القيم التي لطالما ميّزت المجتمع الفلسطيني في غزة (من نصرة المظلوم، ورفض الظلم، وتكريم الكبير، وحماية الصغير، وإطعام الجائع محاضرة كما كانت. هذا التغير، كما يشير مراقبون، ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات طويلة من القهر والمعاناة، وضغوط الاحتلال الذي لم يكتفِ باستهداف الجغرافيا والموارد، بل سعى إلى تفكيك النسيج المجتمعي، وتجريد الإنسان من إنسانيته.
لقد نجحت سياسات الاحتلال وفق كثير من التحليلات في فرض نوع من “هندسة الانهيار”، هدفها إضعاف الهوية الجماعية، وتحويل فئات من المجتمع إلى أفراد يسعون للبقاء بأي وسيلة، في ظل انعدام الأمان وغياب القانون والمؤسسات. ومن هنا، يمكن فهم ما يبدو وكأنه تراجع في الضمير الجمعي، وتفكك في روابط التكافل الاجتماعي والديني والوطني.
بعد أكثر من عشرين شهرًا على حرب الإبادة التي شنها الاحتلال، لم تتوقف آثارها عند الدمار المادي والإنساني، بل تجاوزتها إلى ضرب الأسس الاجتماعية التي كانت تشكل صمّام الأمان للغزيين. في ظل غياب القانون، وتفكك السلطة، وضمور مؤسسات التنظيم المجتمعي، برزت الحاجة والجوع والتشرد كمحركات أساسية للفعل الإنساني، في مشهد مأساوي تتداخل فيه المأساة الوطنية مع الانهيار الداخلي.
إن الأخطر من كل ما سبق هو ما يمكن تسميته بانهيار العقد الاجتماعي؛ فغزة لم تعد كتلة واحدة متماسكة كما كانت في سنوات الحصار الأولى، بل تحولت – بفعل التهشيم المستمر – إلى جماعات متفرقة، متضاربة المصالح، تتنازع حتى على الأساسيات.
إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد أزمة اقتصادية أو أمنية، بل أزمة وجودية تهدد شكل وهوية المجتمع، وتفرض ضرورة مراجعة عميقة وشجاعة لمسار الداخل، قبل أن تبتلع الفوضى ما تبقى من الروح الجماعية لشعب أثبت دائمًا قدرته على الصمود، لكن بات مهددًا بأن يُهزم من الداخل.
{دعوة لمراجعة شاملة لبناء الإنسان في ظل الانهيار القيمي والاجتماعي}:
في ظل التجربة التي نعيشها، تتضح ملامح الفشل الجماعي بجلاء. فقد أخفقت كل من الأسرة بمكونها الضيق، والقبيلة والعائلة بصيغتها الواسعة، إلى جانب المدرسة والمسجد، والمؤسسات التعليمية والتربوية، بل وحتى الأندية والجمعيات، في أداء دورها المنشود في تقويم السلوك المنحرف ومواجهة مظاهر الانحراف الأخلاقي والاجتماعي لدى بعض أبناء شعبنا.
ندرك تماماً أن الحروب لا تجلب سوى الانهيار القيمي وتفشي الجوع والمرض والحاجة، لكن هذا لا يعفينا من مسؤوليتنا الجماعية في ضرورة إجراء مراجعة حقيقية وعملية لمنظومة بناء الإنسان. نحن بحاجة إلى إعادة تشكيل سلوكياتنا ضمن إطار إنساني يليق بتاريخنا الوطني وتضحيات شعبنا في سبيل الحرية والاستقلال.
ورغم التحديات، فإن الطريق لا يزال طويلاً وشاقاً نحو تحقيق الحلم الوطني في التحرر والانعتاق من نير العبودية والاحتلال، ما يتطلب منا جميعاً وقفة جادة لإعادة بناء القيم والمجتمع على أسس صلبة تليق بتضحيات هذا الشعب العظيم.