الروائي والقاص محمود شقير: دور الأدب في بناء واقع فني بديل عن الواقع الحقيقي

أمد/ هناك أسماء في عالم الأدب تبقى حاضرة في الذاكرة، تترك أثرًا عميقًا على القارئ، وتخلق علاقة خاصة بين النصوص ووجدان الإنسان. من بين تلك الأسماء يبرز محمود شقير، الكاتب الذي استطاع بصدق كلماته وعمق رؤيته أن يضيء زوايا مختلفة من حياتنا، ليحملنا في كل عمل جديد إلى عوالمه الأدبية المشحونة بالمعاني.
شقير ابن مدينة القدس صنع لنفسه مكانة في الأدب الفلسطين والعربي بأسلوبه السلس المليء بالشجن.
كيف يقرأ دور الكاتب في المتغيرات الراهنة؟ هنا الحوار:
-1/ بدايةً،كيف ترى نفسك كروائي، وكيف ترى دورك في الأدب الفلسطيني؟
ج1/يجري تصنيفي على أنني كاتب قصة قبل أن أكون روائيًّا، وأنا أقبل هذا التصنيف وأعتز به، لكنني منذ أن بدأت كتابة القصة في ستينيات القرن العشرين كنت أفكر بأن أكتب رواية، وقد قمت بمحاولات أولى لكتابة رواية، ولم أنجح في ذلك، لكن التوق لكتابة رواية لم يفارقني طوال الوقت، وحين نجحت في كتابة روايتي الأولى “فرس العائلة” فإنني لم أهجر القصة القصيرة ولم أتحول عن كتابتها، إذ ظهرت لي مجموعات قصصية بعد “فرس العائلة”، بل إن كتابتي للرواية تأثرت بأسلوبي في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا.
أما عن دوري في الأدب الفلسطيني فإنني أترك الجواب للنقاد الذين تناولوا بعض نتاجاتي القصصية والروائية وأشاروا إلى دوري المميز في هذا المضمار، بعضهم قالوا إن مجموعتي القصصية الأولى قدمت القرية الفلسطينية على نحو غير مسبوق، وبعضهم قالوا إن كتابًا عديدين تأثروا بأسلوبي في كتابة القصة القصيرة وكذلك القصة القصيرة جدًّا.
واستكمالًا للجواب على سؤالك فإنني شجعت كتابًا ناشئين في مقتبل العمر ثم أصبحوا نجومًا في الكتابة بعد ذلك، وذلك حين ثابرت على نشر نتاجاتهم الأولى في جريدة الجهاد المقدسية التي كنت أشغل محرر الشؤون الثقافية فيها في الفترة من عام 1965 إلى بدايات العام 1967، علاوة على أنني منذ سنوات وإلى اليوم أقرأ مخطوطات بعض الكاتبات والكتاب الجدد وآخذ بأيديهم نحو النجاح.
-2/ في روايتك الجديدة “منزل الذكريات”، الصادرة عن دار نوفل – هاشيت أنطوان / بيروت في أكتوبر 2024، تطرح موضوع الشيخوخة من خلال واقع القدس المعاصر الذي يهز الحدود بين الواقع والمتخيل. كيف ساهمت ثيمة الشيخوخة، برغباتها وفقدها وهواجسها، في رسم ملامح العلاقة بين الذاكرة الجماعية الفلسطينية والواقع اليومي للفلسطينيين تحت الاحتلال؟ وما الدور الذي تلعبه هذه الذكريات في مواجهة الصعوبات وتحديات المستقبل؟
ج2/ بداية كان اختياري لكتابة هذه الرواية نابعًا من إعجابي بروايتي كاواباتا وماركيز، ومن رغبتي في طرح ثيمة الشيخوخة في واقع محاصر باحتلال عنصري يسعى إلى منع أي تفتح أو ازدهار لأي منحى إنساني أو تفاعل مع أي ثقافة إنسانية. وقد استغرقني ذلك زمنًا وأنا أحضر لكتابة الرواية التي سعيت لأن تكون فيها رؤية فلسطينية للحب في زمن الشيخوخة المحاصرة بوجود الاحتلال، ولم يكن الشروع في كتابتها سهلًا، وقد قرأت كتاب النساء لابن قيم الجوزيّة، وكتاب أخبار النساء لابن قتيبة، لتذليل الصعوبات ولتعزيز حضور الرؤية المنشودة في مقابل الرؤية اليابانية والأخرى الكولومبية، ثم باتت الكتابة ممكنة حين انتبهت إلى معاناة الفلسطينيين من الاحتلال وممارساته القمعية وذلك من خلال حضور أسمهان وأخيها ابن العالم السفلي والبلطجة، جميحان، في المنحى السردي المطلوب.
-3/ إلى أي مدى تتعايش مع شخصيات رواياتك، وكيف تؤثر عليك شخصيًا؟ وهل تجد نفسك متأثرًا بآلامها وأحلامها بعد الانتهاء من الكتابة؟
ج3/ هذا التعايش موجود، لكنه يتفاوت بين شخصية وأخرى، وكما هو معروف فإن شيئًا من روح الكاتب ومشاعره وتجاربه في الحياة تتسرب إلى نصه الروائي بطريقة أو أخرى، وأنا لا أنكر أن جزءًا من مشاعري وتجاربي في الحياة موجود في الشخصية الرئيسة في أي رواية من رواياتي، وفي بعض الشخصيات الثانوية في الروايات.
لكن من غير الصائب أن يقال إن تلك الشخصية الرئيسة هي أنا في كل تفاصيلها وجزئيات حياتها. مثلًا؛ لنأخذ شخصية محمد الأصغر في “منزل الذكريات” هل هو أنا، محمود شقير؟ إن التدقيق في تفاصيل سيرة محمد الأصغر منذ ظهوره في رواياتي السابقة وصولًا إلى هذه الرواية الأخيرة يدلل على أن سيرته لا تتطابق مع سيرتي، لكن يمكن القول إن جزءًا مني موجود في هذه الشخصية.
وأظن أن استخدامي ضمير المتكلم في السرد هو الذي يدفع بعض النقاد والقراء إلى الاعتقاد بأن هذه الشخصية، شخصية محمد الأصغر الذي ضربته مثلًا هنا، هو أنا الذي يتكلم ويدير السرد على امتداد الرواية.
بالنسبة لي، فإن استخدام ضمير المتكلم في السرد الروائي يمنح الشخصية الرئيسة ومجمل الرواية حميمية يمكن ألا تتوفر بالقدر ذاته مع استخدام الضمير الغائب.
– 4 / ما هي الرمزية التي يستخدمها محمود شقير في كتابه القصصي “نوافذ للبوح والحنين”، الصادرة عن دار طباق للنشر والتوزيع 2023، للتعبير عن الحنين إلى الوطن؟
ج4/ الحنين إلى الوطن حين كنت منفيًّا خارج الوطن، وكذلك الحنين إلى اللحظات المفقودة التي عشتها في الوطن قبل أن يُبتلى باحتلاله كاملًا من البحر إلى النهر، والحنين إلى البيت حين كنت معتقلًا في زنازين السجن الإسرائيلي.
لم ألجأ إلى الرمزية في قصص هذا الكتاب الذي تتواصل قصصه في سياق روائي بقدر استخدامي للسخرية المكشوفة، ولبعض الأجواء الفانتازية الغرائبية للوصول إلى الغاية المطلوبة، وهي تعرية ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد القدس وضد أبناء القدس وبناتها، وتعرية السلوكيات السياسية لبعض الساسة العرب، المطبعين مع دولة الاحتلال، والأجانب المتواطئين مع الاحتلال، هذه السلوكيات التي تترك أثرًا سلبيًّا مباشرًا على حياة الفلسطينيين الذين ابتلوا باحتلال استعماري إقصائي هادف إلى تهويد مدينة القدس وأسرلتها، وتحويلنا نحن أبناءها إلى أقلية هامشية على طريق تهجيرنا منها بشكل مباشر أو غير مباشر، والعمل في الوقت ذاته على ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية.
بالطبع، لا تتم هذه القضايا بشكلها المباشر الفج وإنما من خلال وسائط أسلوبية تعي ممكنات الفن القصصي وشروطه الفنية التي لا بد من توفرها لكي يصل مضمونها الرافض للاحتلال وممارساته إلى جمهور القراء.
-5/ قلت في أحد حواراتك إن “الالتزام في الأدب هو الولاء للمقاومة”. بالنسبة لك، ما مفهوم “أدب المقاومة”؟ وكيف ترى تفرده عن الأنماط الأدبية الأخرى؟
ج5/ لا أذكر أنني قلت كلامًا مثل هذا، ربما قاله أحد النقاد على لساني أثناء تحليله لواحدة من قصصي أو رواياتي. أنا ضد أن نحصر الأدب في منحى جزئي من مناحي الحياة، والمقاومة هي وسيلة وليست هدفًا، ولا غبار عليها وهي حق مشروع للشعوب المبتلاة باحتلال أو بحكم مستبد.
مع ذلك، فأنا لا أتفق مع الذين يبالغون في دور الأدب في التغيير الاجتماعي والسياسي، ولا أتفق مع الذين يرغبون في إرسال الأدب إلى الجبهة للقتال لأداء دور تحريضي مباشر.
دور الأدب في التغيير يتم بشكل غير مباشر، وذلك بتربية الإنسان على مُثل الخير والكرامة، وعلى رفض الهيمنة والخضوع لإرادة المحتلين والمستبدين، ورفض المهانة والذل وكل القيم السلبية التي تتطاول على إنسانية البشر.
أنا مع الالتزام في الأدب، لكن هذا لا يعني تحويل الأدب إلى دعاية مباشرة، وأنا مع توسيع مفهوم أدب المقاومة وعدم حصره في تأييد المقاومة المسلحة ولا شيء غير ذلك. أنا مع جملة فاصلة قالها محمود درويش في كتابه “أثر الفراشة”: “كل شعر جميل مقاومة”.
– 6/ في كتابك “أنا والكتابة” تقدم تأملات عميقة في دور الكتابة وعلاقتها بقضية فلسطين والنضال الأدبي. كيف ترى الكتابة كوسيلة للتعبير عن الذات والانتماء للوطن؟ وكيف تقيّم تأثيرها على وعي الشباب الفلسطيني في ظل الظروف القاسية والإبادة الجماعية المستمرة؟
ج6/للأسف، فإن الإقبال على القراءة في ظروفنا الراهنة أصبح محدودًا ومنحصرًا في أعداد قليلة من المتعلمين والمثقفين، وثمة وسائل عصرية لبثّ المعلومات وتقديم برامج التسلية والإلهاء، وصرف الانتباه عن الثقافة الجادة من خلال الهواتف النقالة والآي باد والتابليت وأجهزة التلفزيون، ومن خلال النيت والفيسبوك والتويتر والتك توك، التي تقدم ثقافة التسلية والثقافة الاستهلاكية التي تسهم في تسطيح الوعي، ومحاصرة الثقافة الجادة ومنعها من الوصول إلى القراء، أو على الأصح منع القراء من الوصول إليها.
مع ذلك، لا بد لنا نحن الفلسطينيين وكل المعنيين بالتقدم الإنساني الحضاري، من مواصلة الالتزام بتقديم ثقافة وطنية تقدمية بأبعاد إنسانية عبر الكتب ووسائط النشر الورقية، وفي الوقت ذاته محاولة استثمار الوسائل العصرية في التواصل مثل النيت وما يتيحه من إمكانات لمخاطبة أوساط واسعة من القراء، لتقديم أدب جاد قادر على الوصول إلى هؤلاء القراء أو لقسم منهم.
-7/ برأيك، هل يجب على الأدب أن يصف الواقع كما هو، أم أن يسعى لتغييره وإيجاد حلول لمشاكله؟
ج7/ المفروض في الأدب ألا يكتفي بوصف الواقع كما هو، لأن ذلك يعني تأييد الترويج لما هو سائد والدعاية له والانحياز لصف القوى المهيمنة الراغبة في تأبيد وجودها وتحكّمها في مصائر الناس.
مهمة الأدب خلق واقع فني مواز للواقع الخام لفضح القصور في هذا الواقع الخام وتعزيز الحوافز لتغييره، ولا مانع في هذه الحالة من الاستفادة من وقائع الواقع الخام وبعض جزئياته للوصول إلى الحالة المطلوبة التي تعني التوق إلى عالم أكثر احترامًا للإنسان، عالم من الحرية والتقدم والطمأنينة والكرامة والسلام.
كذلك ليس من مهمات الأدب أن يضع حلولًا للمشكلات الناشئة، بل هو يربي في الإنسان الرغبة في الانعتاق والبحث عن الحلول التي تساعد على الوصول إلى الواقع المطلوب الذي تتحقق فيه طموحات الناس وتطلعاتهم.
-8/ رواية “مديح لنساء العائلة” وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2016. كيف انطلقت فكرة هذه الرواية؟ هل كانت الشخصيات موجودة في ذهنك مسبقًا، أم ظهرت تدريجيًا مع تطور الأحداث؟
ج8/ هذه الرواية هي الجزء الثاني من ثلاثية العائلة، وهي امتداد لروايتي الأولى “فرس العائلة” بمعنى أن بعض شخصيات الرواية الأولى واصلت الظهور في الرواية الثانية مثل شخصية الأب منّان وبعض نسائه وأبنائه وبناته، مع ظهور شخصيات جديدة أو إعطاء أدوار رئيسة لشخصيات كانت لها أدوار محدودة في الرواية الأولى، ومثال ذلك محمد الكبير وزوجته مريم، وكذلك وضحا، أصغر زوجات منّان وابنها محمد الأصغر.
وبالطبع، ورغم أن هذه الرواية هي الجزء الثاني من الثلاثية فإن بإمكان القارئ أن يقرأها بمعزل عن الجزء الأول وعن الجزء الثالث، لأن لكل رواية انفصالها وفي الوقت ذاته اتصالها مع ما سبقها من أحداث.
أما عن كيفية انطلاق فكرة هذه الرواية، فقد جاءت محكومة بالفكرة الجوهرية الأساس التي حكمت ظهور الرواية الأولى، وهي الرغبة في التعبير عن حياة قطاع واسع من شرائح الشعب الفلسطيني وهو قطاع البدو الذين أنتمي إليهم، من خلال عشيرة الشقيرات التي هي جزء من عشائر عرب السواحرة، الذين عايشوا المراحل المختلفة التي كابدها الشعب الفلسطيني وكابدوها معه، بدءًا بالحكم العثماني ثم الانتداب البريطاني ثم الغزوة الصهيونية التي احتلت الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 ثم أكملت احتلال ما تبقى منها عام 1967، وانعكس كل ذلك في الروايات الثلاث.
-9/ من وجهة نظرك، هل وصلت الرواية العربية إلى العالمية؟ وما الذي تحتاجه أكثر لتصل بقوة وتترك بصمة في الأدب العالمي؟
ج9/ لدينا روايات متميزة تضاهي أهم الروايات على الصعيد العالمي، إنما هذه القضية، قضية العالمية تتحكم فيها مجموعة عوامل لها ارتباط بعلاقات القوة والنفوذ والتأثير وتحكُّم الجماعات المسيطرة على الدوائر الثقافية في العالم، وخلق انطباعات سلبية لدى القراء في بلدانها وخارج هذه البلدان تجاه أدب العالم الثالث وبخاصة أدب البلدان العربية.
باختصار، يتوسّع نفوذ الأدب وانتشاره بقوة تأثير البلدان الخاصة بهذا الأدب في العالم، وللأسف فإن القوى الحاكمة في البلدان العربية ما زالت أضعف من أن تجد لنفسها ولبلدانها مكانة مرموقة في خريطة العالم المعاصر، أغلبها دول تابعة لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية ولبلدان أوروبا الغربية.
ثم إنها، أقصد البلدان العربية، لا تولي اهتمامًا للترويج للأدب العربي ولا توجد مؤسسات معنية بترجمة هذا الأدب، أقصد بالطبع النماذج المتميزة منه، وتعميمه في أقطار العالم المختلفة. ويكفي في هذا الصدد أن أشير إلى ما تفعله دولة الاحتلال الإسرائيلي تجاه أدب الكتاب الإسرائيليين، إذ حين تصدر رواية لكاتب إسرائيلي، فإن المؤسسة الإسرائيلية المعنية بالترجمة تبادر فورًا إلى ترجمة هذه الرواية إلى ثماني لغات من لغات العالم، وبهذا يتحقق الانتشار الذي يفتقد مثله الأدب العربي.
-10/ كتابك “تلك الأمكنة”، الصادر عام 2020، تتناول فيه أماكن ورحلات ويوميات وأدب. إنه الكتاب الأول الذي تُفرد فيه لهذه السيرة، حيث تتناول فيها حياتك ضمن إطار اجتماعي عام. يعتبر هذا خطوة جريئة نحو تقديم سيرتك الذاتية، لكنك أبقيتها ناقصة بوعي. ما الذي دفعك إلى هذا الأسلوب المفتوح؟ وكيف تتوقع من القارئ أن يكمل هذا “الناقص”؟
ج10/ حين يتجاوز المرء سن الثمانين فإن سيرته الذاتية يمكن أن تُكتب في عدد غير قليل من المؤلفات، لكن الذاكرة لا تستطيع أن تلم بكل وقائع السنين التي قضاها المرء في خضم الحياة، وهو يختار ما تسعفه به الذاكرة وما يجد هو فيه نفعًا للقراء أو ما يشعر بأن له قيمة تستحق أن تظهر في كتاب.
مع ذلك، فلربما شعرت بالنقص الذين تشيرين إليه في سؤالك فأتبعت “تلك الأمكنة” بكتاب سيرة آخر هو “تلك الأزمنة” وقد قوبل باهتمام أكبر من النقاد والكتاب والكاتبات، وفيه عرض لجوانب أخرى من حياتي.
وقبل سنة، ورغم أنني أشرت في “تلك الأزمنة” أن هذا هو الجزء الثاني والأخير من سيرتي الذاتية، فقد استدركت وأشرت إلى أنني وجدت ضرورة لكتابة جزء ثالث أظنه الأخير من سيرتي هو “هامش أخير”.
هذا الجزء الأخير ما زال مخطوطة قد تنشر بعد عام أو أقل من عام.
11-/ تسعى في رواياتك وقصصك إلى الاستفادة من وقائع التاريخ ومعيشتك اليومية، دون إعادة سرد ما كتب في كتب التاريخ، بل تنظر إلى تلك الوقائع من منظور مختلف ضمن رؤية فنية تسلط الضوء على آلام وأحزان الفلسطينيين، لتأكيد حقهم في الحرية والكرامة. كيف ترى الأدب كوسيلة لتقديم التاريخ بطريقة إبداعية؟ وهل تراه وسيلة لتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين بشكل يتجاوز الإطار الوثائقي إلى مستوى فني يؤثر في القارئ؟
ج11/ معروف أن الأدب وبخاصة الرواية ليست كتاب تاريخ، ولا يمكنها أن تسجل وقائع التاريخ كما يفعل المؤرخ في كتابة التاريخ، بل هي تستفيد من بعض وقائع التاريخ لتنطلق نحو عالم يضمّنه الروائي رؤاه الفكرية بالتخييل المطلوب لتوصيل تلك الرؤى للقراء.
إنما يمكن القول إن مرور الزمن يسهم في تحويل الرواية إلى وثيقة تاريخية تشير إلى ملامح فترة معينة من تاريخ مجتمع ما، من دون أن تتحول في الوقت ذاته إلى مادة يجري التعامل معها مثلما يجري التعامل مع كتاب تاريخ، بمعنى أن السمات الفنية والأسلوبية للرواية يمكن أن تبقى حاضرة إن كانت مكتوبة بأسلوب أدبي يمنحها البقاء في فضاء الأدب الإنساني الذي يتجاوز عصره إلى عصور أخرى قادمة.
أنا لا أحب كتابة رواية تستند إلى التاريخ القديم، ولا أتحمس لقراءة الرواية التاريخية إلا ما ندر في قليل من الحالات. وما فعلته في رواية “فرس العائلة” هو الاعتماد على بعض وقائع التاريخ القريب للشعب الفلسطيني الذي عاينته منذ بدايات القرن العشرين، لدى أفول حكم الدولة العثمانية وحلول الاستعمار البريطاني في محله.
وما دفعني إلى ذلك هو استمرار تأثيرات ذلك الاستعمار الذي سموه انتدابًا، ذلك الانتداب الذي رعى احتلال الحركة الصهيونية لأرض فلسطين، هذا الاحتلال الذي ما زلنا نعاني من وجوده الثقيل حتى الآن.
*عن مجلة “الحصاد” تموز 2025