حماس: حركة مستعبدة بفعل الأيديولوجيا

أمد/ في كل الحروب التي خاضها الشعب الفلسطيني قبل وجود الإسلام السياسي ممثلاً بحركة حماس، عبر تاريخ طويل من العطاء والفداء والتضحيات الجسام، ظلّت هناك مساحة ما تُسمّى “المصلحة الوطنية” حاضرة وتتقدّم على الشعارات الكبرى والحسابات الضيقة. بينما في حروب حماس مع الاحتلال، وخصوصاً، حرب الإبادة التي نتعايش تفاصيلها القاتلة، حيث أظهرت وجهها الأكثر تطرّفاً، مُسْتَسلِمة لأيديولوجيا دينية جامدة، غير عابئة بشلال الدم الذي يُغرق غزة، ولا بالدمار الذي حوّلها إلى مدينة أشباح.
حركة حماس اليوم، تبدو كأنها تنظيم منفصل عن شعبنا في غزة، لا يسمع صرخاته ولا يرى دموعه ولا يكترث لجوعه ولا لنزيفه. هي مُنشغلة بحسابات ما يمكن أن أسميه بـــــ “الصبر الاستراتيجي” الذي تروّج له، كأنه أحد أركان الإيمان، أو عنوان الفضيلة ، بينما هو في الحقيقة عناد سياسي وانغلاق فكري، دفع شعبنا نحو محرقة مفتوحة. لذلك يمكن القول، بأن حركة حماس ما زالت أسيرة أيديولوجيتها الصلبة، ترفض الاعتراف بأن حسابات السياسة تختلف عن حسابات العقيدة، وأن صلابة الموقف لا تعني بالضرورة الحكمة أو المصلحة الوطنية.
منذ بداية الحرب، تكبّد أهلنا في غزة أثماناً فادحة، وكأنها أثمانٌ لم تكن كافية، كي تغيّر حماس نهجها أو تتنازل خطوة في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لأن أيديولوجيتها لا تسمح لها برؤية الواقع. فهي ترى في كل تنازل خيانة، وفي كل مرونة انكساراً، وكأن دماء الناس وقود لمشروعها السياسي أكثر من كونها حياة يجب إنقاذها.
إن جوهر المشكلة أن حماس تخلط بين كونها حركة تحرّر وكونها مشروعاً أيديولوجياً دينياً. فهي تعتبر تعنّتها جزءاً من عقيدتها، وترى في التمسّك بالحكم في غزة واجباً شرعياً وأمراً لا يمكن التفريط فيه. ولهذا، فقد تحولت إلى سلطة مهووسة بالبقاء، مُستعدّة لدفن غزة تحت ركامها إذا كان في ذلك ما يضمن لها الاستمرار في حكم القطاع، والاحتفاظ به كإقطاع سياسي خاص بها، ولو على جثث الناس وأحلامهم ومستقبلهم.
لقد ظنّت حماس أنّ بقاءها على خط النار وحده كافٍ كي يُكسبها شرعية أبدية، أو كي يمنحها ورقة سياسية أقوى. لكنها لم تدرك أن شرعية أي حركة تحرّر تُقاس بمدى التصاقها بمعاناة الناس، ومدى استعدادها لتقديم التضحيات من أجلهم ، تبدأ تدريجياً بفقدان شرعيتها حتى لو رفعت شعارات المقاومة والنصر.
إن الأيديولوجيا الدينية التي تقيّد حركة حماس اليوم ليست مجرّد قناعات فكرية؛ إنها سجنٌ سياسي أعمى، يمنعها من الرؤية الاستراتيجية ويجعلها غير قادرة على قراءة التحوّلات الكبرى، وهي لا تُدرِك أن العالم حالة ديناميكية متغيرة، وأن المراهنة على الصمود إلى ما لا نهاية، هو انتحار سياسي وأخلاقي، ولو كانت تملك الحد الأدنى من الشجاعة السياسية، لكانت أدركت أن إنقاذ الناس أهم من أي خطاب نصر مزعوم.
ما يحدث اليوم هو نتيجة مباشرة لعناد حماس وغرورها الأيديولوجي. فإذا استمرّت الحركة على هذا النهج، فستجد نفسها يوماً ما خارج معادلة الشعب الفلسطيني نفسه. لأن الشعوب، حتى لو صبرت، لا تغفر لمن يتركها تحترق وحدها.
إن حماس التي هزمتها الأيديولوجيا، لا تدرك أنها إذا استمرّت على هذا النهج، فإنها لن تحصد إلا مزيداً من العزلة. وشعبنا الذي يئن تحت وطأة الحرب والدمار والموت والقهر، وانهيار كل مقومات الحياة لديه، يحتاج قيادة تفكّر بعقل الدولة لا بشعارات التنظيم، وتضع إنقاذ البشر قبل التمسّك بالسلطة أو الدفاع عن أيديولوجيا مهما بدت سامية. إن الصمود الحقيقي ليس عناداً أعمى ولا تعنتاً أيديولوجياً، بل قدرة على قراءة اللحظة السياسية، والاعتراف بالواقع، واتخاذ القرار الذي يحفظ الشعب والوطن. وللأسف، حتى هذه اللحظة، لم تثبت حماس أنها قادرة على ذلك.
ونذكر، إن نفعت الذكرى، إن المطلوب اليوم من حماس ودون اي تفكير أو استدراكات أو حسابات أنانية ضيقة، من أجل نفسها وشعبها، هو مراجعة أيديولوجيتها، والقبول بمبدأ الشراكة الوطنية، والانفتاح على حلول سياسية واقعية، والاعتراف بأن أي مشروع مقاومة لا يمكن أن ينجح إذا كان على حساب حياة الناس وكرامتهم. أما غير ذلك، فهو انتحار سياسي، سيفضي، بل ربما قد أفضى فعلاً إلى تغييرات جذرية في خريطة فلسطين الجغرافية والديمغرافية