بعد الهجوم على إيران… أوراق القوة في مفاوضات عُمان: هل يبقى التهديد بالحرب مجرد مناورة سياسية؟

بعد الهجوم على إيران… أوراق القوة في مفاوضات عُمان: هل يبقى التهديد بالحرب مجرد مناورة سياسية؟

أمد/ لم يعد الحديث عن مفاوضات عُمان بين إيران والولايات المتحدة يجري في ظروف غامضة أو خلف الكواليس، فقد جاءت الدعوات الأمريكية – خاصة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – لاستئناف التفاوض، بعد أيام من عدوان عسكري واسع النطاق شاركت فيه واشنطن بشكل مباشر إلى جانب الكيان الصهيوني ضد أهداف داخل الأراضي الإيرانية.

ورغم حجم الخسائر البشرية والمادية، ردّت طهران بعملية دفاعية نوعية كشفت عن مدى جاهزيتها العسكرية واتساع بنك أهدافها في عمق جغرافيا العدو، من البحر الأحمر إلى شرقي المتوسط. هنا، تغيّرت قواعد الاشتباك، وارتسمت ملامح مرحلة جديدة عنوانها: التفاوض تحت النار.

قيل العدوان، دخلت إيران هذه المرحلة من المفاوضات – وإن بشكل غير مباشر – مستندةً إلى مزيج متكامل من أوراق القوة الصلبة والناعمة. من القدرات الصاروخية والمسيّرات الدقيقة، إلى التأثير على شرايين الطاقة العالمية، مرورًا بخيار الخروج من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT) وتنامي الأصوات الشعبية والسياسية المطالبة ببناء القنبلة النووية كخيار ردعي مشروع.

ورغم التجارب المريرة السابقة التي أثبتت أن واشنطن لا تلتزم بتعهداتها، لا سيما في ظل العقوبات المتجددة وسياسة الضغط الأقصى، فإن التوجه نحو التفاوض بعد العدوان لم يكن بهدف حل الملف النووي فحسب، بل بالأساس لاحتواء تداعيات الحرب المفتوحة، ومنع تحول الضغط الخارجي إلى فتنة داخلية، وإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية ضمن إجماع وطني قائم على مبدأ “الرد والردع”.

إلا أن اتخاذ هذا القرار في إيران لا يتم على مستوى السلطة التنفيذية وحدها، بل يجب أن يكون قرارًا يعكس الإرادة العليا للنظام، وفقًا للدستور الإيراني، ويتطلب موافقة القائد الأعلى. وقد اعتبرت بعض الجهات في الداخل أن هذه العودة إلى التفاوض في هذا التوقيت هي أشبه بتجرّع “كأس السم”، رغم أنهم يقرّون بضرورته في سياق إدارة معقدة لميدان متعدد الجبهات.

لقد أظهرت الجولة الأخيرة من العدوان أن المفاوضات لم تعد فصلًا مستقلًا عن المعركة. فطهران تخوض معركتها السياسية والدبلوماسية، وفي يدها أوراق قوة عديدة، أبرزها:
1. القدرات العسكرية والدفاعية المتطورة التي أثبتت فاعليتها ميدانيًا، وخلقت معادلة ردع جديدة، سواء عبر الصواريخ الدقيقة أو المسيّرات الهجومية أو الدفاعات الجوية المتكاملة.
2. التحكم بمضيق هرمز وباب المندب، وما لذلك من تداعيات مباشرة على أسعار النفط العالمية، وقد ظهر ذلك جليًا بعد العدوان الأخير عندما ارتفعت الأسعار بمجرد إعلان التعبئة الإيرانية.
3. التأثير على الاستقرار الإقليمي، من اليمن إلى لبنان والعراق وسوريا، حيث تمتلك إيران أدوات رد فعل فاعلة على الوجود الأميركي وحلفائه.
4. رفض دولي واسع لأي حرب شاملة على إيران، بسبب تداعياتها غير المحسوبة على الاقتصاد والأمن العالميين، وهو ما عزل واشنطن وتل أبيب سياسيًا في أغلب المحافل.
5. قابلية القواعد الأمريكية للضرب في الخليج الفارسي والقرن الأفريقي وشرق المتوسط، ما يجعل أي تصعيد عسكري مغامرة غير محسوبة النتائج.
6. الآثار البيئية والإنسانية لأي عدوان موسع، في منطقة مكتظة بالبنى التحتية النفطية والملاحية.
7. التحولات المفاجئة في المعادلة الدولية، خصوصًا مع دخول قوى مثل الصين وروسيا على خط الوساطة والردع.
8. الخروج من معاهدة NPT وفتح ملف بناء القنبلة النووية بوصفه “حقًا سياديًا” في ظل انعدام الثقة بأي ضمانات غربية.

في المقابل، سعت الولايات المتحدة – ولا تزال – إلى استخدام التهديد بالقوة كأداة لتحسين موقعها التفاوضي رغم فشل العدوان في كسر الإرادة الإيرانية. فبالنسبة لصناع القرار في واشنطن، يبدو أن قبول طهران بالمفاوضات يشكّل فرصة للدعاية الداخلية، وترويج انتصار وهمي يُوظّف في المعركة الانتخابية ، وخاصة من قبل ترامب، الذي يغازل “إنجازًا تفاوضيًا” يعيد له ما خسره في الشرق الأوسط.

لكن إيران، رغم قبولها بمبدأ التفاوض غير المباشر، لا تنظر إليه كمساحة لتنازلات مجانية. فهي تخوض مفاوضاتها من موقع قوة، وبعد أن أظهرت أنها لا تخشى المواجهة، وهي تحاول بهذا الإطار أن تفرض معادلة جديدة:
لا مفاوضات تحت التهديد… بل تفاوض من موقع الندّية والمقاومة.

وعليه، فإن مستقبل مفاوضات عُمان يخضع لعدة سيناريوهات:
• الأول: إذا تمسّك الطرفان بأقصى مطالبهما – كأن تصر إيران على رفع كامل للعقوبات مقابل استمرار التخصيب، وتصر أمريكا على صفر تخصيب مع بقاء العقوبات – فإن النتيجة ستكون الفشل الحتمي.
• الثاني: إذا سعى الطرفان إلى الحد الأدنى المشترك، فقد يتم التوصل إلى تفاهم مؤقت، يجمّد التصعيد دون إنهاء الخلافات.
• الثالث: إذا استمرت أمريكا في سياسة المراوغة والضغط، فقد ترد إيران بتوسيع البرنامج النووي، والاقتراب من العتبة العسكرية، ما سيدفع المنطقة نحو تصعيد متدحرج.
• الرابع: قد تكون المفاوضات ذات طابع رمزي أو إعلامي فقط؛ تريد أمريكا منها استعراضًا أمام الداخل، فيما تستثمرها إيران لرفع العتب والظهور بمظهر القوة العقلانية.

وسط كل ذلك، تظل الورقة الأمريكية الأهم هي التهديد بالحرب، لكنها ورقة محترقة بعد أن ثبت – في العدوان الأخير – أنها لا تملك تأثيرًا حقيقيًا، بل تؤدي إلى ارتداد عكسي، سواء ميدانيًا أو اقتصاديًا. أما خدعة التهديد (أو ما يُسمى بالـ”بلوف”)، فقد أصبحت مكشوفة، ولم تعد ترهب إيران التي باتت تدير معاركها وفق قاعدة: كل تهديد فرصة للمواجهة والتثبيت.

في الخلاصة، إيران لا تفاوض اليوم كما كانت تفعل قبل سنوات. فبعد العدوان، تغيّر كل شيء. إيران تفاوض من موقع المُعتدى عليه الصامد، لكنها في الوقت ذاته تصرّ على أن أي اتفاق يجب أن يحفظ كرامتها الوطنية ويعيد التوازن الاستراتيجي المختل. والميدان، كما هو واضح، بات يُترجم على طاولة التفاوض. أما من يعتقد أن بإمكانه انتزاع تنازلات عبر النار… فقد جرّب وفشل.