أرواح على حافة الفناء

أمد/ “نحن بين يدي الله”، قالتها صديقتي وهي تمضي إلى عملها. لم تكن كلماتها دعاءً بقدر ما كانت وصفًا صادقًا لحالٍ لا يعرف سوى التسليم. في صباح غائم بالدخان، ركبت سيارة أجرة، وما إن تحرك السائق حتى توقف لرجل يلوّح بجسده لا بيده، حاملاً مصابًا ينزف. أنزله أمام مستشفى لا يعرف إن كانت فيه حياة، ثم مسح دمًا تساقط على مقعد السيارة، وأكمل طريقه بصمت يشبه صمت المقابر.
هكذا صارت الحياة في غزة؛ الحياة التي تمشي بمحاذاة الموت، لا تفرّ منه ولا تستسلم له، بل تنتظره. ليس لأن الناس يحبونه، بل لأنهم تعبوا من الخوف، وتعبوا من أن يفلتوا منه في كل مرة، ليعود ويختبئ لهم في زاوية جديدة.
لم يعد استشهاد إنسان يوقف الحياة، ولا مشهد الدم يوقف الحديث. نمر بجوار الشهداء، ونمشي. نرى المصابين، فنركض نحاول إسعافهم بما بقي من طاقة وأمل، ثم نعود إلى حياتنا المشوّهة. صار كل شيء عادياً، حتى اللاعادي. أصبح الموت خبز يومنا. نعدّ جثث أحبّتنا كما نعدّ ثيابنا التي طالتها شظايا القصف.
الناس هنا يعيشون وهم يودّعون أنفسهم يوميًا. كل بيت فيه حقيبة طوارئ، ومفتاح باب لا يُغلق لعل أحدهم يعود محمولًا، أو لا يعود أبدًا.
قالت لي صديقتي: “نحن نركض خلف الموت وهو يركض خلفنا”. جملة تلخص مأساة غزة ببساطة مرعبة. فالموت هنا ليس غائبًا منتظرًا، بل هو حاضر، متعجل، لا يمنح الناس الوقت حتى للبكاء. لا وقت للعزاء، لا وقت للحزن، فقط وقت للهرب، للمساعدة، للركض.
ورغم ذلك، لا أحد يهرب حقًا. الكل يبقى. الكل يقاوم بشيء ما. البعض يقاوم بالحياة، وآخرون بالكلمة، وغيرهم بالماء والدواء والدم. لكن الجميع يقاوم، ولو بصمته.
في غزة، الأمل واليأس ليسا ضدين، بل توأمان يمشيان جنبًا إلى جنب. نأمل أن لا نموت هذا اليوم، ونوقن أننا قد لا نعيش للغد. نُطمئن أطفالنا أن كل شيء سيكون بخير، ثم نسرق أنفاسنا خوفًا من صاروخ قادم. نصلي ونبكي وننام بأعين مفتوحة، ننتظر شيئًا لا نعرف إن كان خلاصًا أم نهاية.
لم تعد جملة “نحن بين يدي الله” ترفًا لغويًا. إنها خلاصة التجربة. نحن حقًا بين يدي الله، لأن الأرض لم تعد تحتضننا، والسماء لم تعد تأوينا، والعالم اكتفى بالتفرج علينا من خلف الشاشات.
غزة اليوم مدينة الأرواح المنهكة، مدينة الناجين الذين لم يعودوا يشعرون أنهم أحياء. مدينة الأطفال الذين صاروا يلفظون كلمة “قصف” قبل أن يقولوا “مدرسة”، والنساء اللواتي يرضعن أولادهن حليب الخوف، والشيوخ الذين ماتوا مرات قبل أن يأتيهم الموت الأخير.
لكن مع كل هذا، غزة لم تمت. لأن من تعوّد على النظر في عين الموت، تعلّم أن يعيشه بلا انكسار.