الرمز الفلسطيني في قصائد محمد علوش: من المعاناة إلى الأسطورة

الرمز الفلسطيني في قصائد محمد علوش: من المعاناة إلى الأسطورة

أمد/ في مشهد الشعر الفلسطيني المعاصر، تبرز تجربة محمد علوش بوصفها واحدة من التجارب التي تمكّنت من إعادة تشكيل الرمز الوطني والأسطوري بلغة تنبض بالوجد، وتحمل بصيرة شعرية توازن بين حرارة القضية وعمق الرؤية، لا يكتب علوش عن فلسطين فقط، بل يكتب بها، ويستولد من رمادها طقسًا شعرياً يعيد خلقها كأيقونة من جمر وكلمات.

شعر محمد علوش متجذر في بيئة المخيم، لا كمكان مادي فقط، بل كمعادل شعري للهشاشة والتشظي من جهة، وللقوة والإصرار من جهة أخرى. المخيم يتحول في شعره إلى مسرح أسطوري للمقاومة، حيث يلتقي المهمّش بالعابر، واللاجئ بالنبي، والطفل المحاصر بالبطل الملحمي، هذه القدرة على نقل اليومي إلى الميثولوجي هي ما يجعل شعر علوش تجربة خاصة لا تتكرر.

الرمز كحامل للذاكرة الجمعية: والرموز في شعر علوش ليست أدوات تجميل لغوي، بل حوامل للذاكرة الجمعية، ووسائط لنقل الألم والكرامة والتاريخ المكبوت، الزيتونة ليست شجرة، بل سلالة الدم، والخيمة ليست مأوى، بل رحم المنفى، والشهيد لا يموت، بل يتحول إلى حامل للنبوءة.

في قصيدة “نشيد البذرة الأخيرة”، تتكثف هذه الرؤية الرمزية:

نمضي… وفينا من صمتِ الفجيعةِ ما يكفي لننسفَ جداراً

ونزرع في الظلِّ قمحاً… وفي الليلِ نجماً… وفي الأرضِ طفلاً شهيداً

هنا، تتحول البذرة إلى كيان حي، إلى سفرٍ شعري للمصير الفلسطيني: الولادة والموت والنهوض، كأنّ الشاعر يقول إن الفلسطيني يزرع حتى في الظل، ويضيء حتى في العتمة.

الشهيد كرمز ميثولوجي: ففي قصيدة “ذو العيون الخضراء”، لا يكتفي الشاعر بتخليد الشهيد، بل يُضفي عليه هالة مسيحانية تُحيله إلى ما يشبه الإله الشعبي:

وكانت يداه كفوفاً من الضوء

تحمل خبز الحياةِ إلى حطّةِ الوقت

الضوء والخبز – رمزان للمعجزة والاحتياج اليومي – يجتمعان في جسد الشهيد، ليعيد علوش تشكيله بوصفه جسراً بين الأرض والسماء، بين الفقد والحياة.

المنفى كصلب وجودي: في “صليب المنفى”، يبلغ الرمز ذروته حين يستعير الشاعر صورة الصلب المسيحي لتمثيل تجربة الاقتلاع:

صلبتني الطريقُ

وكان المنفى مسماراً في يدي،

وسماءً من دخان!

المنفى هنا ليس جغرافيا، بل جرح ميتافيزيقي، وضعية وجودية تعيد تعريف الإنسان الفلسطيني ككائن مصلوب يبحث عن ذاته في خريطة لا يعترف بها العالم:

أجرُّ حقيبةً من تراب،

وأبحث عن رئتي في الخريطة

في هذا المشهد، تصبح الخريطة نفسها جسدًا لا يُرى، رئة مفقودة، وتنكشف فداحة الانفصال بين الإنسان وأرضه.

الأسطورة السياسية، الفلسطيني بوصفه نبيّاً مقاتلاً: ففي قصيدة “ميلاد النبي الفلسطيني”، يعمّق الشاعر هذا المنحى الرمزي الأسطوري، ويجعل من الموت الفلسطيني باباً للقيامة:

أنا الطفلُ إن متُّ قُمتُ،

وإن قُمتُ أطلقتُ زغرودةً من فمي

هذا التماثل بين الطفل والنبي والشهيد والمرأة المُزغردة، يُنتج بلاغة معكوسة، حيث تصبح الزغرودة – أداة الفرح – أداة مقاومة ضد الموت، وتتحول الأم الفلسطينية إلى مصدر للحياة والمجد، لا للبكاء.

الخيمة والطفل، رمزان متشابكان للخلود والتحول: والخيمة في شعر محمد علوش ليست خيمة اللاجئ الهشّة، بل تتحول إلى جذر متحرك للهوية، والطفل، كما في العديد من قصائده، ليس رمزاً للبراءة وحدها، بل هو حاملٌ للمصير الجمعي، لوعي يتجاوز عمره.

يُولدُ الطفلُ من صدر بندقية

ويكمل سطراً من النشيد الغائب

بهذا المعنى، لا يكتب علوش الطفلَ الفلسطيني، بل يجعل الطفل هو من يكتب نشيد الأرض – الأرض التي لا تكتب بغير الدم والشغف.