عندما يلخص الشهيد اليمني الفلسطيني القصة والتاريخ بأكمله

أمد/ كنت بصدد الكتابة هذا الأسبوع عن المواجهة الإسرائيلية الايرانية الأخيرة، واستشراف مآلاتها النهائية مع استخدام الرئيس مسعود بزشكيان عبارة “نلتزم بالتهدئة طالما التزمت اسرائيل بها”، وهي العبارة التي سمعناها مراراً خلال العقدين الماضيين مع انتهاء الجولات القتالية في غزة ولبنان وباتت من الماضي. فإسرائيل تهدد بمواصلة وتوسيع هجماتها وعدوانها في لبنان إلى إيران بعشرات المرات، كما قال حرفياً وزير الدفاع يسرائيل كاتس لإجهاض محاولات إعادة بناء المشروعين النووي والصاروخي، وربما حتى منظومة الدفاع الجوي المتهالكة أصلاً والتي دمرتها إسرائيل من اللحظات الأولى للمواجهة الأخيرة، ما أتاح لها الهيمنة التامة واستباحة الاجواء الإيرانية بالكامل.
لكنني غيرت الموضوع على أهميته عندما رأيت الجمعة صورة وخبر نعي المسن في جباليا الذى يحمل أباه المسن أيضاً، حيث لم يكن الأمر عادياً بالنسبة لي كوني أعرف جيداً وعن قرب قصة الأب الشهيد أحمد البدري “أبو بدر”، وابنه محمد الذى استشهد معه إثر قصف إسرائيلي، بينما أصيب شقيقه ونقل الى المستشفى بحالة خطيرة، علماً أن الابن البكر بدر كان صديقاً عزيزاً كما أقاربه الذين كانوا ولا يزالوا أصدقاء ورفاق درب.
قوافل متطوعين
عموماً، بدا لي مشهد الاستشهاد وكأنه يختصر القصة والرواية الفلسطينية كلها، حيث أتى أبو بدر البدري شاباً من اليمن، متطوعاً للجهاد في فلسطين تحديداً قبل النكبة الأولى عام 1948، ولكنه نال الشهادة كما تمنى دوماً بعد ذلك بـ77 عاماً في مخيم جباليا بالنكبة الثانية، التي لا نزال نعيش فصولها الدامية والأليمة.
القصة باختصار، أن أبو بدر اليمني أتى متطوعاً ضمن قوافل عربية عديدة، تدفقت للجهاد في فلسطين عام 1948 وقبله بسنوات طويلة من أربع جهات العالم العربي، من العراق وبلاد الشام شرقاً إلى المغرب العربي غرباً ومن ومصر شمالاً إلى السودان واليمن جنوباً. وأقام كثير من المتطوعين بعد ذلك ممن لم ينالوا شرف الشهادة وترعرعوا كفلسطينيين، مع استمرار الارتباط التاريخي والعاطفي ببلادهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر تنحدر عائلة مؤسس وأمين عام الجهاد الإسلامي السابق الشهيد فتحي الشقاقي من أصول ليبية، وينحدر أحد قادة حماس ومؤسسيها عماد العلمي من المغرب، وقصة الشهيد السوري عز الدين القسام معروفة بالطبع، كما حضر متطوعون للجهاد حتى من كردستان واحتفظوا يلقب العائلة “الكردي” والحاجة خديجة خويص المرابطة المقدسية من أصول مغربية كذلك، وتختصر أيضاً تاريخاً طويلاً للمتطوعين والمجاهدين المغاربة في أحد أبواب المسجد الأقصى، والحي الذي بناه لهم صلاح الدين الأيوبي تكريماً لهم ولتضحياتهم في تحرير فلسطين وصدّ الغزاة.
حضور إيراني ضعيف
اللافت هنا أن لا إيرانيين أبداً رغم العاطفة الشعبية الأكيدة تجاه القضية الفلسطينية، ونتيجة البعد الجغرافي والسياسي والحضور الضعيف طوال قرن في القضية، حيث لم تنخرط طهران بشكل جدي فيها إلا بالسنوات الاخيرة. والشاهد هنا أن الشعب الفلسطيني خاض الجهاد والنضال منذ بداية المشروع الصهيوني بمحطات مفصلية وتاريخية عديدة مثل ثورة 1936 ومعارك 1948 وانطلاق الثورة المعاصرة وتأسيس منظمة التحرير ومعركة الكرامة وحصار بيروت والانتفاضتين الأولى- -1987 والثانية -2000- دون أي حضور أو تأثير لطهران، إلا بالسنوات القليلة الأخيرة بينما ارتبط هذا الحضور للأسف بالتغطية على المشروع الطائفي التوسعي بالدول العربية وأدى ضمن أسباب كثيرة بالطبع إلى النكبة التي نعيشها حالياً.
الانتقال إلى جباليا
بالعودة الى الشهيد أبو بدر البدري فهو من مواليد 1914 بمحافظة حجة اليمنية، قاتل بعناد على جبهات عدة أثناء الحرب والثورة الكبرى في فلسطين-1936- ولكنه لم ينل الشهادة فيها، وبعدها هاجر مرغماً في تهجير قسري طبعاً من بلدة سمسم –قضاء غزة التي دمرها الاحتلال بسياق متعمد لطمس جرائمه- بعدما تزوج من عائلاتها، وتصرف كأحد أبنائها إلى مخيم جباليا للاجئين شمال غزة حيث عاش كفلسطيني وأنجب بكثرة مثلهم 8 أبناء وبنات –ثلاث إناث وخمسة ذكور وأكثر من 50 حفيداً- انخرطوا كأبيهم وأقرانهم في العمل الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال بعد حرب حزيران يونيو 1967.
أما ابنه البكر بدر ومع سهولة الحركة إثر اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، فقد سافر من غزة إلى اليمن حيث استقبله أهله في محافظة حجة كما ينبغي بترحاب، وأكرموا مثواه وحصل بسهولة على الجنسية اليمنية وتزوج من إحدى قريباته وعاش كفلسطيني يمني إلى أن توفي شاباً في صنعاء، إثر مرض عضال قبل عشر سنوات تقريباً علماً أنه أصيب برصاصة كادت أن تكون قاتلة في الانتفاضة الأولى.
حضور يمني كبير
بالسياق، كان حضور اليمن كبيراً في القضية الفلسطينية قبل عراضات الحشد الحوثي الأخيرة، الذي بدا كمنظومات الاستبداد متاجراً بالقضية لتحقيق مكاسب فئوية، تضمن هذا الحضور قوافل المتطوعين للجهاد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كما كان لليمن أيضاً بعد الاستقلال بشماله وجنوبه أيادي بيضاء في دعم القضية، دون أي تدخل سلبي، واستضاف مقاتلي الثورة إثر الخروج من بيروت عام 1982، فيما يشبه الانصهار بالقدرات والخبرات مع القوات المسلحة باليمن، علماً أن هذا الأخير كان من أوائل الدول التي قدمت كذلك ورغم البعد الجغرافي، جوازات ووثائق سفر للفلسطينيين لتسهيل حركتهم وإدارة حياتهم اليومية.
ومرة أخرى وفيما يخص الشهيد أبو بدر اليمني فقد كان من الصامدين مع أهله بجباليا بمواجهة جرائم الإبادة والحرب الإسرائيلية، ونزح عدة مرات قبل أن يعود كل مرة إلى المخيم الذي ترعرع بين جدرانه حتى نال الشهادة مع ابنه محمد المسن الستيني أيضاً.
هنا لابد من التذكير بمخيم جباليا ورمزيته في الثورة الفلسطينية والمقاومة بقيادة جيفارا غزة-محمد الأسود- بمواجهة جيش الاحتلال بعد احتلال غزة إثر حرب حزيران يونيو 1967، حيث احتاجت إسرائيل إلى ثلاث سنوات لتوهم القضاء على المقاومة قبل أن تعود جذوتها مشتعلة أيضاً بعد سنوات قليلة ومن مخيم جباليا، الذى كان شرارة الانتفاضة الأولى-1987- وعنواناً للثبات والشجاعة ورقماً صعباً بالمقاومة في غزة وفلسطين بشكل عام.
وبالعموم بدت الصورة الشهيرة للمسن “الفلسطيني اليمنى” يحمل أبيه المسن-اليمني الفلسطيني- أيضاً كما الشهادة نفسها وكأنها تختصر القصة والرواية كلها حيث العاطفة العربية الجياشة تجاه القضية الفلسطينية والشعب الذي يورث العناد لأبنائه جيلاً بعد جيل ولا يكل أو يلين رغم النكبة بل النكبات وعجزت إسرائيل عن فرض الاستسلام عليه لا في الميدان ولا على طاولة التفاوض.
عن المدن اللبنانية