سوريا: المسار المستقبلي للشعب والسلطة والدولة

أمد/ هل تتجه سوريا نحو استمرار الفوضى؟، أم نحو البناء والاستقرار وبناء الدولة الوطنية الحديثة؟ يبدو أن الإجابة على هذه التساؤلات ما زال محل شك.
يبدو أن الوضع في سوريا ومستقبلها لازال يسوده الغموض غير البناء، من خلال ما تشهده من أحداث داخلية، ومن كيفية تعامل السلطة القائمة مع تلك الحوادث.
بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار، تقف سوريا اليوم أمام مفترق تاريخي شديد التعقيد: إما أن تنهض على أسس وطنية جامعة تضمن الحقوق والحريات، وتستعيد سيادتها ووحدتها، أو أن تغرق في نموذج سلطوي طائفي جديد، يعيد إنتاج الفوضى بأساليب مؤسسية أكثر رسوخًا وخطورة.
منذ وصول السلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، برز خطاب سياسي يدّعي الانفتاح على مفاهيم الدولة الحديثة، من دستور ومواطنة وتعددية ومؤسسات. لكن الوقائع على الأرض تكشف عن واقع مختلف، تحكمه عقلية جهادية إقصائية، تُعيد تشكيل مؤسسات الدولة عبر إدماج عناصر مليشياوية متشددة، وتهميش المكونات المجتمعية غير السنيّة، خصوصًا المسيحيين والدروز والعلويين، في ممارسة تكرّس ثقافة “الذمية” بدل المواطنة.
التحولات البنيوية التي يشهدها جهاز الدولة تُعيد إنتاج نظام استبدادي طائفي مغلّف بلغة الحداثة، لكنه قائم على مفاهيم الفرز الطائفي، والولاء العقائدي، والتمييز في الحقوق والتعامل.
ويكفي تأمل البيان الرئاسي الصادر بعد تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة ذي الأغلبية المسيحية، الذي خلا من الإشارة إلى الضحايا بوصفهم “شهداء”، على خلاف بيانات سابقة حين كان الضحايا من المسلمين. التناقض في اللغة ليس تفصيلاً، بل كاشفٌ لمنظومة فكرية تحكمها نظرة دونية تجاه “الآخر”، مهما تزينت بعبارات الوحدة الوطنية.
في ظل هذا الواقع، لا يمكن فصل الوضع الداخلي السوري عن تأثيرات قوى إقليمية ودولية تسعى لتوجيه مسار الدولة الجديدة وفق حسابات النفوذ والمصالح.
فإسرائيل تتابع هذا التحول عن كثب، وتراه فرصة استراتيجية لإدامة احتلالها للجولان، في ظل غياب أي موقف واضح من السلطة الجديدة تجاه الاحتلال أو القضية الفلسطينية، لا بيانات إدانة، ولا مواقف سياسية، ولا إشارات على تمسك فعلي بسوريا كجزء من محور يناهض المشروع الصهيوني.
بل إن بعض الأوساط السياسية تتحدث عن استعدادات ضمنية للتطبيع، إذا ما توفرت له ظروف دولية مناسبة، كجزء من ترتيب إقليمي واسع.
أما تركيا، فتدير علاقتها مع سوريا الجديدة ببراغماتية كاملة، تمزج بين تدخل عسكري في الشمال السوري، واتصالات أمنية غير معلنة مع مكونات السلطة الجديدة، هدفها الأساسي ضبط حدودها، ومنع قيام كيان كردي، والتعامل مع ملف اللاجئين، دون اعتبار فعلي لمصير الدولة السورية أو هوية نظامها.
وعلى الجانب الآخر، ينحسر النفوذ الإيراني تدريجيًا أمام صعود تشكيلات سلفية مدعومة إقليميًا، مما يُغيّر موازين القوى داخل الساحة السورية، ويُحيل مستقبل البلاد إلى مسرح تنافس مكشوف بين رعاة إقليميين متنازعين.
الشعب السوري، الذي أُنهك بالحرب والتشريد، يقف اليوم رهينة بين سلطة أيديولوجية تفرض نفسها بالقوة، وقوى خارجية لا تعبأ بمصالحه الوطنية.
وفي ظل غياب مشروع جامع للمصالحة، وغياب أي أفق حقيقي لبناء دولة مدنية ديمقراطية، تزداد احتمالات الانفجار الداخلي مجددًا، أو تثبيت استقرار هش قائم على القهر وتكريس الامتيازات الطائفية.
إن سوريا الجديدة، كما تتشكل اليوم، لا تتجه نحو البناء الحقيقي، بل نحو إعادة إنتاج أزمة الدولة الوطنية في شكل أكثر تشددًا، فالدولة لا تُبنى على الانقسام، ولا تُدار بعقلية الغلبة الدينية، ولا يمكن أن تستقر في ظل تغييب التنوع وتهميش المكونات المجتمعية.
إن اللحظة الراهنة تفرض على النخب السورية، السياسية والفكرية والدينية، أن تعيد طرح سؤال الدولة من جديد: أي سوريا نريد؟ سوريا المواطنة والعدالة والدستور؟
أم سوريا الغلبة والولاء الطائفي والاستبداد المقنّع؟
الجواب لم يعد نظريًا، بل مصيريًا، إذ يتحدد عليه مستقبل وطن كان ذات يوم مركزًا للتمدن والانفتاح، ثم أصبح، بفعل التدخلات والحسابات الضيقة، على شفا الانهيار التام أو الخضوع لمعادلات إقليمية تبقيه هشًا، وظيفيًا، وخارج التاريخ.