ترامب لا يهتم بمحاكمة نتنياهو، بل يستمتع بالتدخل في السياسات الخارجية للدول.

أمد/ عشية الانتخابات الرئاسية البرازيلية لعام 2022، غرّد دونالد ترامب برسالة دعم حماسية لـ”صديقي العزيز، جايير بولسونارو”. بعد خسارة بولسونارو في الانتخابات، عندما حاول أنصاره الانقلاب عليه، أعرب ترامب عن تضامنه معه.
ترامب، الذي ألهم اقتحام مبنى الكابيتول قبل عام، اعتقد أن صديقه يتعرض للظلم واعتبرها حملة اضطهاد شعواء.
إن سلوك ترامب مع بولسونارو يقدم نموذجًا مصغرًا لما يفعله الآن مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو: تحويل أزمة قانونية إلى قضية شعبوية يلتف حولها جمهوره ويوظفها كورقة ضغط انتخابية في الداخل الأميركي وكأداة هيمنة في الخارج.
ترامب ليس صديقًا وفيًا، لكنه يستمتع كثيرًا بممارسة السلطة. كان التدخل في سياسات الدول الأجنبية عبر التغريدات هوايته المفضلة منذ ولايته الأولى.
قبل عام وشهرين فقط، جلس ترامب في قاعة محكمة مقاطعة مانهاتن أربعة أيام في الأسبوع لمدة شهر كامل في قضية نجمة الأفلام الإباحية ستورمي دانيلز. اعتبر ترامب تلك التهم ظلمًا فادحًا، وتعلم كيف يستخدم فكرة المحاكمة كسلاح تعبئة شعبوي يصور نفسه به كضحية مطاردة ساحرات.
ويوظف القصة لترويج خطاب الاضطهاد الذي يكرره الآن دفاعًا عن نتنياهو، وفي خطوة بدت صادمة حتى بمقاييس السياسة الإسرائيلية، دعا ترامب علنًا إلى إلغاء محاكمة نتنياهو ومنحه العفو، بحجة أن استمرارها “يعرقل المفاوضات” مع حماس وإيران ويضر بمصالح إسرائيل وأميركا معًا.
كتب ترامب على منصته “تروث سوشال”: “ما يحدث مع نتنياهو أمر صادم. إنه يتفاوض على صفقة، فكيف يُعقل أن يُجبر على الجلوس في المحكمة؟ إنها حملة سياسية شعواء”. بل لوّح أيضًا بأن استمرار محاكمة نتنياهو قد يعرض الدعم العسكري الأميركي للخطر، مذكرًا أن واشنطن تنفق مليارات الدولارات سنويًا لحماية إسرائيل.
يقول بعض المحللين الإسرائيليين إن هذا التدخل غير مألوف في مسار قضائي لدولة يُفترض أنها ديمقراطية ذات سيادة. لكن الأخطر كان رد الفعل في الداخل الإسرائيلي: حكومة نتنياهو تلقفت الرسالة سريعًا ووظفت تصريحات ترامب كسلاح في معركة بقائها.
رئيس لجنة الدستور في الكنيست سمحا روتمان دعا إلى عفو رئاسي عن نتنياهو، بينما طالب وزير الخارجية غدعون ساعر بإنهاء القضية عبر صفقة ادعاء، واعتبر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير المحاكمة “محاولة انقلاب ضد الديمقراطية”. وشكر نتنياهو ترامب على دعمه مؤكدًا “العمل معًا لهزيمة الأعداء وتوسيع السلام”.
في المقابل، عبّر معارضون مثل يائير لابيد عن رفضهم لهذا التدخل مؤكدين أن إسرائيل “ليست جمهورية موز”، فيما وصفت النائبة نعما لزيمي نتنياهو بأنه “يحتجز الدولة رهينة لإنقاذ نفسه”.
هذا التدخل الأميركي في الشأن القضائي الإسرائيلي ليس حادثة معزولة. فقد فعل ترامب الشيء نفسه في دول أخرى: في كندا انقلب الرأي العام ضد مرشح كان يُعتبر ضعيفًا بسبب تدخل ترامب ودعمه، وفي ألمانيا توحدت الأحزاب ضد الحزب اليميني المتطرف الذي تلقى دعمًا علنيًا من ترامب وإيلون ماسك.
وفي كل حالة، كان رد فعل المجتمع و المواطنين دفاعًا عن استقلالهم وحقهم الديمقراطي في الاختيار.
أما في إسرائيل، فالوضع مختلف.
هناك قطاع كبير يرى في واشنطن “الأب الروحي” الذي يمنح الشرعية بغض النظر عمن يجلس في البيت الأبيض. حتى في قضايا تمس استقلال القضاء، هناك من يعتبر رضا ترامب أهم من كل اعتبار.
هذا الميل للاستسلام ليس وليد اللحظة. فمنذ حرب أكتوبر 1973 أصبحت إسرائيل تعتمد على الدعم الأميركي كدرع أساسي، لكنها احتفظت أحيانًا بهامش رفض أو مناورة. أما اليوم، ومع حكومة يقودها زعيم غارق في قفص الاتهام، تتحول العلاقة من شراكة معقدة إلى خضوع شبه كامل حتى لو كان الثمن النظام القضائي.
ترامب لا يرى إسرائيل شريكًا متساويًا، بل مقاولًا أمنيًا يؤدي المهام الصعبة والقذرة في الشرق الأوسط. وبسبب تدهور علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والغرب، صارت رهينة شبه كاملة للعرّاب الأميركي الذي يوظفها في صراعاته ومكاسبه الانتخابية.
مع أن نتنياهو يعرف ذلك ويستغل هذا التحالف بوعي، يوظف الحرب والرهائن وأزمات الأمن وحتى المساعدات ليقايض بها في معركة بقائه، بل يزرع في ذهن ترامب تصريحات يستخدمها الأخير في تغريداته، تمامًا كما فعل ترامب حين وصف محاكمته بأنها “مطاردة ساحرات”.
يقول بعض المحللين في النهاية إن النتيجة واضحة: دولة تختزل في مصير رجل واحد، ونظام قضائي مهدد، ورهائن يستخدمون كورقة ضغط، ومعارضة تُتهم بالخيانة لأنها تدافع عن القانون. والأسوأ أن نصف الشعب يصفق لهذا الانهيار معتقدًا أنه يحميه.
تصريحات ترامب لم تكن نزوة رئيس سابق يتدخل في بلد حليف، بل مرآة مؤلمة لدولة فقدت توازنها بين الأمن والديمقراطية، وصارت مستعدة للتنازل عن سيادتها حمايةً لزعيم يرفض مواجهة العدالة.
ترامب ليس منقذًا، بل سياسي شعبوي يسعى لمجد شخصي وصور تذكارية وصفقات. وإذا اضطر لتدمير مؤسسات إسرائيل الديمقراطية لتحقيق ذلك فلن يتردد. وهناك من يصفق له رغم رؤية الركام يتكدس.