غزة… عندما يتحول الموت إلى حياة مكتملة، وحين تصبح الشجاعة ثقلًا على الدم.

غزة… عندما يتحول الموت إلى حياة مكتملة، وحين تصبح الشجاعة ثقلًا على الدم.

أمد/ في غزة، التي صنعت تاريخ فلسطين، وأهلها الذين رسموا بدمائهم لوحات أيقونية من الفداء والعطاء لوطن تبخرت معاني الوجود فيه، واسدلت عليه الخيبات المؤلمة. لا يموت الناس مرة واحدة. يموتون مرات لا تُحصى. يموتون تحت القصف الإسرائيلي الذي لا يميّز بين طفل ولا امرأة ولا شيخ. يموتون في بيوت تتهاوى فوق رؤوسهم، وفي المستشفيات التي لم يعد فيها مكان إلا لرائحة الدم والبارود. وفي المدارس التي اضحت مقابر موت للأحياء، يموتون جوعًا بعدما أطبق الحصار والنزوج عليهم من كل الجهات، وأصبح الخبز أغلى من الروح.
لكن ما يقتل أهل غزة أكثر من صواريخ إسرائيل هو هذا الموت البطيء الذي ينسلُّ إلى أرواحهم من الداخل. يقتلون حين يشعرون أنهم بلا ظهير، بلا أحد يراهم كأناس يستحقون الحياة. يقتلون حين يسمعون تصريحات بعض قادة حماس، وهي لا تبالي بعدد القتلى ولا بحجم الدمار، ولا ترى في هذه الدماء سوى وقود لمعركة يُراد لها ألا تنتهي أبدًا.
يموتون، من التأييد الأعمى للفلسطينيين في الشتات، وممن يتغنون بالمقاومة وببطولات حماس، وبالمثلث الأحمر، وبتصريحات الملثم، ودون أن يقدموا شيء سوء الآهات على صور وفيديوهات الجزيرة التي عبّدت عقولهم للبقاء أسيرة لنهجها المشكوك، والتي يرى فيها الفلسطينين في غزة، جزء من مخطط بقاء معاناتهم وتبرير لموتهم، بينما في غزة، ثمة أمهات أرهقهن الظلم والخيبة وغياب الأمل وموت السند، يبحثن عن بقايا أطفالهن تحت الركام، أو أنوثة لم يعد لها مكان. يموت شعبنا في غزة وهم ينظرون إلى شبابهم وقد تحولوا إلى كل شيء كان يوماً محظوراً، يموتون وهم يشعرون أن معاناتهم تحوّلت إلى مادة للخطابات، والتصريحات، وأن دمائهم صارت أداة في معركة سياسية لا تضع حدًا للمأساة، بل تعيد إنتاجها كل يوم.
لا أحد يزايد على حق شعبنا في المقاومة والحرية، ولا على من قدّم ويُقدم روحه فداء الوطن، لكن المقاومة الحقيقية هي تلك التي تحمي شعبها، وتئن لآلامه، وتستمع لأوجاعه، لا التي تدفعه إلى المقصلة والموت المجاني، وفي كثير من الأحيان تعاقب من يعبر عن قهره وأحزانه، باسم البطولة. فالمقاومة التي تصبح عنوانًا للموت الدائم، دون أفق ولا حساب، تتحول من أداة تحرر إلى عبء يفاقم الجراح.
لا بد أن نقولها بصراحة: إن استمرار من تسبب بكل هذا، في إدارة المشهد، بهذا النهج الذي لا يرى إلا السلاح ولا يسمع إلا صدى صوته، صار جزءًا من أزمة الموت لا من الحل. لم يعد كافيًا أن نردد شعارات الصمود ونحن نشاهد مأساة ربما لم يسبق للبشرية أن عاشت تفاصيلها كما يعيشها شعبنا بغزة. لم يعد كافيًا التغني بالبطولات، فيما الناس يبحثون عن لقمة عيش أصبحت مترافقة مع موت مجاني، وعن بيت أضحى حلم، يحميهم من السماء التي تمطر نارًا.
نريد لحرب الموت هذه أن تتوقف. نريد أن يمنح شعبنا فرصة للحياة، للحلم، وللأمل. وإذا كان ثمن وقف هذا النزيف هو إزاحة حماس عن المشهد، فليكن، فمن يملك الثقة بصوابية نهجه وبجماهيريته، لا يخشى الغياب وأن طال، وهذه أقل التضحيات، التي يمكن أن تسجل لها، لأن الدم الفلسطيني أغلى من أي فصيل، وأعز من أي راية، وأقدس من أي خطاب، وبرأيي أعظم من وطن يراد له يكون بلا شعب.
غزة تستحق أن تعيش. تستحق أن يراها العالم خارج صور الركام والجثث. تستحق أن تتوقف عن الموت ألف مرة في اليوم. لأن البطولة الحقيقية اليوم، هي أن ينقذ شعبنا في غزة من هذا الفناء الذي لا ينتهي. ولو كان لقلمي صدى، لأرسلت كلماته وبكل اللغات إلى كل بقاع في الأرض، لا تطالب العمل، بل تتوسل كل من يستطيع وقف الموت لشعبنا.
في غزة، الموت ليس لحظة واحدة يُسدَل فيها الستار. إنه حياة كاملة تُعاش على حافة الفناء. وكل يوم يمرّ، ينهش مزيدًا من أرواح الناس، ويعمق فيهم خيبة الأمل من عالم صامت، لا يرى فيهم سوى عنوانًا للأخبار العاجلة.