طهران وتل أبيب: تحليل استراتيجي لصراع غير محسوم في ظل تراجع الأهداف المعلنة

أمد/ تشهد العلاقة بين إيران (طهران) وإسرائيل (تل أبيب) واحدة من أكثر العلاقات توتراً على الساحة الإقليمية والدولية، خصوصاً منذ مطلع عام 2024، حيث تصاعدت المواجهة المباشرة لأول مرة منذ عقود، متجاوزة مرحلة “الحروب بالوكالة”. لكن، وبعد مرور أشهر من الحرب العلنية والهجمات المتبادلة، يظهر أن الأهداف المعلنة—خاصة من الجانب الإسرائيلي—لم تتحقق بشكل كامل. التقييم الاستراتيجي لهذه المرحلة الحرجة، من خلال تحليل أهداف الطرفين، وتقييم الأدوات المستخدمة، وقياس المكاسب والخسائر، مع الإشارة إلى التحديات البنيوية والسياسية التي تواجه كل طرف.
أولاً: أهداف إسرائيل من التصعيد مع إيران
بحسب تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وضعت إسرائيل عدة أهداف لهذه المواجهة:
1. تحجيم المشروع النووي الإيراني أو على الأقل تأخيره.
2. تفكيك البنية التحتية للمحور الإيراني الممتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت وغزة.
3. إعادة بناء الردع الإسرائيلي بعد صدمة 7 أكتوبر 2023 أمام حماس.
4. تعزيز الاصطفاف الدولي والإقليمي ضد إيران، بما يشمل جذب دعم أمريكي وخليجي أوسع.
ومع ذلك، تظهر التقييمات الحالية أن معظم هذه الأهداف لم تتحقق بالشكل المتوقع:
المنشآت النووية لم تُدمّر، بل كثفت إيران من نشاطها في بعض المواقع السرية.
الردع لم يُعاد ترسيخه بالكامل، بدليل استمرار الهجمات من حزب الله والحوثيين.
الاصطفاف الإقليمي تعرّض للاهتزاز نتيجة لتزايد الضغوط الشعبية العربية والدولية ضد الحرب في غزة.
الوضع الداخلي في إسرائيل يزداد تعقيداً، مع تصاعد التظاهرات وتوترات سياسية داخل الحكومة اليمينية.
ثانياً: الأهداف الإيرانية واستراتيجية “الاحتواء النشط”
من الجانب الإيراني، لا تعترف طهران علناً بخوضها مواجهة شاملة مع إسرائيل، لكنها تحرك أدواتها الإقليمية على النحو التالي:
1. منع تغيير قواعد الاشتباك في سوريا ولبنان.
2. استخدام ساحات الوكلاء في غزة، اليمن، سوريا والعراق كأوراق ضغط استراتيجية.
3. الحفاظ على الردع الإيراني عبر ضرب أهداف استراتيجية داخل إسرائيل (مثل الهجوم بالطائرات المسيّرة في نيسان 2024).
4. توظيف الصراع لتحسين موقعها التفاوضي مع الغرب بشأن الملف النووي.
إيران استفادت جزئياً من التصعيد:
استطاعت كشف هشاشة منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي في بعض المواقع.
اختبرت قدرة رد الفعل الأمريكي، ووجدت تردداً نسبياً في الانخراط المباشر.
عمّقت الانقسام داخل الساحة الإسرائيلية، ما عزّز موقفها الإقليمي.
مشاهد الدمار في المدن شكلت صدمة ومكوث ساعات طويلة في ملاجئ ترك بعدا في وعي الجمعي .
ثالثاً: التحديات البنيوية لكل طرف
إسرائيل:
أزمة ثقة داخلية بين القيادة والجيش.
تراجع الدعم الدولي، لا سيما في أوروبا.
عبء اقتصادي نتيجة الحرب المتعددة الجبهات.
استنزاف الاحتياط العسكري والبشري وصمود قسري
إيران:
اقتصاد منهك بسبب العقوبات.
تحديات داخلية مثل الاحتجاجات ومطالب الإصلاح.
تعقيد في السيطرة على الوكلاء بسبب اختلاف الأجندات.
الخوف من انزلاق الحرب إلى الداخل الإيراني.
رابعاً: التقييم العسكري والتكتيكي
رغم الضربات المتبادلة بين الطرفين، إلا أن النتيجة العسكرية لم تكن حاسمة. لم تحقق إسرائيل “نصر الصورة” كما حصل في حروبها السابقة، فيما نحجت إيران في فرض معادلة ردع دائم. وكلا الطرفين اضطر إلى قبول نوع من التهدئة الضمنية أو “وقف إطلاق النار غير المُعلن”، وهو ما يعكس محدودية الخيارات العسكرية أمام تعقيدات الواقع الإقليمي والدولي.
خامساً: المستقبل القريب – ماذا بعد؟
يبدو أن تل أبيب ستعود إلى سياسة “الضربات الدقيقة” بدل المواجهة المباشرة، محاولة استعادة زمام المبادرة دون التورط في حرب استنزاف.
طهران بدورها ستراهن على الزمن، مستفيدة من التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي والغرب، بينما تواصل تعزيز مشروعها النووي.
يبقى خطر الانفجار الإقليمي قائماً، خاصة إذا حصل تصعيد على الجبهة اللبنانية أو تم استهداف منشأة نووية إيرانية بشكل مباشر.
في ضوء التطورات الأخيرة، يمكن القول إن الطرفين خرجا من هذه الجولة بلا منتصر واضح.
فقد أخفقت إسرائيل في فرض شروطها أو تحقيق أهدافها المعلنة، بينما لم تنجح إيران في تأمين جبهة ردع مستقرة. ومع بقاء الصراع مفتوحاً على احتمالات متعددة، فإن الجولة القادمة قد تكون أعنف، وأقل قدرة على الاحتواء، ما لم تدخل قوى دولية كبرى لتفرض ترتيبات إقليمية جديدة.